لا بد من التسليم بالحق في الاختلاف، وأن يكون ذلك مكفولا بموجب قوانين وأنظمة ولوائح رسمية. وبالحوار وحده سنجادل من يريد الإساءة لنا ولوطننا بالحجة. ولن يكون لقوى الظلام فرصة للتستر تحت جنح الليل

ليس من تحول فكري إنساني إلا وكان نتيجة لتحولات سياسية واجتماعية كبرى، تحدث إما بالتراكم، أو بالتحول النوعي، الذي يأخذ مكانه في معمعات الفواجع والحروب والحرائق. إن الأمم تعيد قراءة تاريخها وأفكارها على ضوء المتغيرات التي تجري من حولها.
جالت هذه الأفكار في خاطري، وأنا أشهد ردود الأفعال المتواصلة في الصحف المحلية ووسائل الأعلام المرئية، ومواقع الخدمة الاجتماعية، بعد الفجيعتين المروعتين في بلدة القديح بالقطيف، والعنود في مدينة الدمام، اللتين ذهب ضحيتهما ثلاثون شهيدا، وعشرات الجرحى.
هناك حالة حزن وغضب، وهناك مطالبات بمخاض فكري جديد، لا يكون فيه مكان لثقافة التطرف والتكفير والإرهاب. وهي مطالب مشروعة، وكان ينبغي أن لا ننتظر حدثا مفجعا، كالذي حدث في القديح والعنود، لنتنبه إلى أهمية مراجعة ثقافتنا وأفكارنا. لكن ضريبة أي تطور حقيقي في تاريخ الأمم، نادرا ما تكون غير معمدة بالدم.
نطالب بإحداث تغيير جوهري في المكون الثقافي لمجتمعاتنا، ويغيب عنا أن الثقافة كما يعرفها علماء الاجتماع هي الطريقة الكلية لحياة شعب من الشعوب. وفي المجتمعات المتحضرة تعني الثقافة ضروب النشاط الاجتماعي في مختلف الميادين، مثل الفن والأدب والموسيقى.. وهي أيضا الحاضن الشامل لكل ما صنعه وابتدعه الشعب من الأفكار والأشياء وطرائق العمل فيما يصنعه ويحققه. وإذن فالحديث عن الثقافة يشير أيضا إلى جملة المعتقدات والأعراف واللغة والاختراعات والتقاليد، وطرائق الحياة.
وكنا في حديث سابق قد أشرنا إلى أن الثقافة الخاصة لأي أمة من الأمم تتكون وتتراكم، عبر حقب طويلة وممتدة، وتصبح جزءا من مكونات الهوية. وتكتسب عن طريق الممارسة اليومية، وبفعل قوى ذاتية أو من خلال تفاعل مع تيارات إنسانية. ويجري تقمصها بالتعلم والعمل والشعور والتفكير، بمعنى أنها ليست ساكنة في الدم، بل هي نتيجة اندماج وحراك وتفاعل، سواء تحقق ذلك بشكل سلبي أو إيجابي. وما نتوق له هو أن يؤدي هذا التراكم إلى ثقافة تجعلنا في القلب من هذا العصر، ثقافة تجعلنا قادرين على التعبير إيجابيا عن كل ما هو إنساني ونبيل، وهدفها ترسيخ إنسانية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة. والثقافة المطلوبة، على هذا الأساس، هي موقف يرفض الجمود والسكون والتكلس في التاريخ، وهي التحام بالعصر وليست مواجهة معه.. والحياة هنا رحبة فسيحة، مليئة بمختلف الرؤى والأفكار والألوان الجميلة.
إنها والحق تعبر عن جوهر الحب والتسامح، وتعبر عن عشق خالص للحياة، وتتطلع بأمل كبير وثقة واعية نحو المستقبل الأفضل. إنها على النقيض من ثقافة التطرف والإرهاب ونهج التكفير، الذي تسود فيه الخزعبلات والخرافة، وتغيب النظرة الموضوعية والموقف الرصين من الأشياء، وتسد الأبواب، وتضيق مساحة الاجتهاد. والآراء لدى قوى التطرف لا تحتمل الاختلاف، وبنفس المستوى لا تحتمل اختلاف الألوان. وبدلا من الاندماج بالمجتمع والتفاعل مع تياراته يجري تكفير المجتمع بأسره والتشجيع على العزلة عنه. إنها مواجهة شاملة مع المجتمع والحاضر والمستقبل.
ولعل في الفواجع الأخيرة، التي تعرضت لها بلادنا ما يدعو إلى التفكر والتبصر، وما يمكننا من اكتشاف عناصر قوتنا، التي تجلت في الوحدة الوطنية، التي شملت البلاد من أقصى حدودنا الشمالية إلى أقصى حدودنا بالجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى حدودنا الغربية.
لقد أثبت التجربة قوة التلاحم بيننا، لقد تغلبنا على حالات كثيرة من الضعف في نفوسنا. وتوحد الجميع أمام الخطر الداهم، يجمعنا شعور عام بوحدة المعاناة وبأن الواحة التي نستظل بفيئها بحاجة إلى جهود الجميع. وتبارى الكل في وحدة وطنية رائعة لاستنهاض ما هو مخزون في أنفسهم من غضب للتنديد بجرائم الإرهاب.
لكن المطلوب منا هو أكثر من ذلك بكثير. لا يكفي أن تكتب مرثيات في شهدائها، فهم بحول الله في عليين، ولا يكفي أيضا أن نعبر بالعرفان والامتنان لرجال الأمن الذين يعرضون حياتهم للخطر من أجل أن يستمر الأمن والاستقرار والرخاء في بلادنا. لكن ذلك ليس يكفي، فالمطلوب هو أن نتخطى بعقولنا وقلوبنا منطق فرض الكفاية.
لا بد من أن يشارك الجميع في المعركة الوطنية ضد الإرهاب، بما يمكننا من القضاء على هذه الظاهرة واستئصالها من جذورها. والوصول إلى الجذور ليس ليس أحجية يصعب فك رموزها، فتعبيرات قوى الإرهاب ومفرداتهم هي البوصلة التي لا يرقى لها الشك في تحديد ماهية تلك الجذور. إنها ببساطة تغليب السيف على الحوار، وسيادة نهج التكفير، والضيق بالرأي والرأي الآخر، وإغلاق أبواب الاجتهاد. وهي أمور تعيدنا إلى موضوع الثقافة، نقطة البداية في هذا الحديث.. إنها ثقافة أفرزت حالة شبيهة بالغيبوبة، خلفت حالة من الانفصام الشخصي لدى قوى التكفير. ومواجهة هذه الثقافة هي عنصر حاسم وأصيل في الحرب على الإرهاب.
لا بد من التسليم بالحق في الاختلاف، وأن يكون ذلك مكفولا بموجب قوانين وأنظمة ولوائح رسمية. وبالحوار وحده سنجادل من يريد الإساءة لنا ولوطننا بالحجة. ولن يكون لقوى الظلام وخفافيش الليل فرصة للتستر تحت جنح الليل.
ينبغي إعادة النظر بشكل جذري في كل ما من شأنه أن يعزز فكر الإرهاب، وأن يجري تعزيز فكر التسامح. ويجب أن يجري العمل على قدم وساق، لتعميم قيم التسامح والاجتهاد، وأن تستغل مختلف الوسائل المتوفرة في التعليم والتربية والصحافة والإعلام المرئي وغير المرئي، بشكل حثيث يتناسب مع حجم التحديات والمخاطر التي يتعرض لها وطننا. وتتحول نتائج الفاجعة إلى فسحة للتأمل والمراجعة، بما يجعل بلادنا مرتعا للبهجة والفرح، وللمستقبل الجميل الواعد.