الأنظمة الاستبدادية هدفها الرئيس هو البقاء في الحكم واستعباد الشعوب وليس لديها أي مشكلة في بيع الأوطان والشعوب للظفر بالسلطة، خطورتها الكبرى تكمن بإمكانية تلونها وفقا للمصالح
أخبرتني صديقتي التي ما زالت تعيش في الساحل السوري حتى اللحظة أن نظام الأسد العلماني بفروعه الأمنية والحزبية والشعبية يوزع على الشباب العلويين والمسيحيين والدروز والإسماعيليين نسخا عن رأي ابن تيمية الشهير في تكفيرهم ويلح على استحضار فحواها وتفاصيلها في كل مناسبة، وقد حظيت هي نفسها بنسخة قبل فترة، ولا بد من الإشارة إلى أننا لم نكن ننتظر نظام الأسد لا أنا ولا صديقتي ولا الشباب السوريون كي نتذكر هذه الفتوى، فقد سبقه إلى هذا الاستحضار ممارساته وممارسات إعلامه المتطرفة ضد السوريين الثائرين من اجل كرامتهم، والخطاب الإعلامي التكفيري لبعض المحطات الفضائية ومشايخ الفتن والممارسات الإجرامية لداعش في أكثر من بقعة عربية.
المثير هو التناغم في الطرح والغائية في تكريس هذا الخطاب الظلامي بين عدة إرادات متناحرة شكلا: الأسد والتكفيريون والقوى الأجنبية الداعمة للجهتين في آن معا، فمن هي هذه الإرادات العدوة الصديقة، المتناحرة شكلا المتفقة جوهريا؟
الجهة الأولى باطنية النوايا عن قصد، بعضها عربي وبعضها غريب، ولها استراتيجية براغماتية متلونة مبتغاها الحفاظ على السلطة والمصالح والنفوذ أو الظفر بالسلطة والمصالح والنفوذ وتستخدم الدين والعصبيات أو العلمانية والشعارات الديمقراطية، كما تستخدم القطيع المنفعل لتحقيق سياساتها وهي الجهة الأخطر لأنها خفية، تمتلك خطة مدروسة محددة المعالم، وتمتلك إمكانيات هائلة ووسائل إعلام مؤثرة تخدم أهدافها.
الجهة الثانية واضحة النوايا عن جهل، ظلامية الفكر تكفيرية، صادقة في ظلاميتها، مؤمنة بعقائدها المتطرفة وجهلها وضلالها، لها في ابن تيمية قدوة ومعلم، تقاتل من أجل الظفر بالجنة الموعودة وإعلاء شأن الإسلام الذي رسمه مشايخها على قياس اجتهاداتهم، وتستغلها الجهة الأولى لتحقيق استراتيجيتها، وهي أقل خطرا من الأولى لأنها مكشوفة ومفضوحة الهدف ويمكن حصر منافذها وتجفيف منابعها بقطع الدعم الذي تقدمه إليها الجهة الأولى.
الفريق الثالث جمهور متأثر عن قهر أو جهل، لا يملك قرارا ولا وعيا ولا استراتيجية، لم يعتد على الفعل خلال عقود من الاستبداد والتهميش، فهو القطيع المنفعل والمفعول به إلا أنه يتحول إلى أداة مؤثرة تستخدمها الجهتان السابقتان في الوصول إلى السلطتين السياسية أو الدينية أو الاستعمارية على الأرض بالنسبة للأولى وإلى الفوز بالمكافأة الإلهية في السماء بالنسبة للثانية، وهي إرادة خطيرة بحكم الكثرة، إلا أن أحكامها انفعالية مؤقتة قابلة للإصلاح في حال تغيرت المعطيات الدافعة للعنف القيمي والسلوكي وتم تجديد وعيها وبهذا قد تكون أقل خطرا من الفريقين السابقين المستغلين لها.
ضمن الفئة الأولى وعلى الصعيد الخارجي يبرز الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة، التقليدية والحداثوية، البدائية والتكنولوجية، التي استغلت، وما زالت تستغل، مخاوف الأقليات الدينية في الشرق الأوسط من المد السني لتحقيق مآربها، خير مثال على ذلك ما فعلته فرنسا في سورية إبان الاحتلال وتقسيم سورية إلى دويلات، منها دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز ودولة لبنان الكبير، وإغداق المزايا والعطايا البسيطة التي اعتبرت إنجازا بنظر تلك الفئات الفقيرة والمهمشة اجتماعيا، وهو أمر لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فـعلويو سورية اختبأوا في الجبال لعقود طويلة أسرى مخاوفهم من التعرض للتنكيل مجددا، رسخ ذلك عدة أحداث تاريخية، منها محاولات المماليك قسرهم على التسنن، ثم الاستناد على رأي ابن تيمية الخطير باعتبارهم أشد خطرا من اليهود والنصارى، ثم مجزرة السلطان العثماني سليم الأول، ذات الأبعاد السياسية، بحقهم عام 1515، وعلى سبيل المثال تذكر مصادر تاريخية أن العلويين كانوا يستخدمون ماء البحر لتمليح طعامهم لعدم امتلاكهم ثمن الملح وأنهم كانوا يخشون النزول إلى المدن إبان الاحتلال العثماني إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي، فقد قام الأخير بشق الطرق إلى قراهم وإن بأيدي وعرق أبنائهم المجندين، كما سمح لهم بتعليم أبنائهم ولو بشكل خجول نتيجة قلة الحيلة وباتوا يجرؤون على إرسال بناتهم لكسب القوت والعمل كخادمات لدى الأسر الغنية في المدن والخروج من أوكارهم الحبلى بالجهل والأمية والفاقة إلى المدنية والمناصب الإدارية والتطوع في الجيش لاحقا وهو الطريق الأسهل للحصول على دخل مادي في ظل صعوبة أحوالهم، قنعت فرنسا بدور الحامي والمنقذ لهذه الأقليات من خطر التكفير لتستخدمهم حطبا على محرقة مطامعها وقد فاجأها وأزعجها كثيرا أن تخرج من بينهم أصوات وطنية وعروبية ثائرة ضد التقسيم كالشيخ صالح العلي والسلطان باشا الأطرش وما أشبه الأمس باليوم حيث تدعي إيران حرصها على حماية الشيعة العرب، ومنهم العلويون، في سورية والعراق ولبنان واليمن، متذرعة بخطر الإرهاب التكفيري عليهم.
الأنظمة الاستبدادية - كنظام الأسد - هي الأكثر تهديدا على الصعيد الداخلي وقد تتقاطع مصالحها مع الاستعمار لأن هدفها الرئيس هو البقاء في الحكم واستعباد الشعوب وليس لديها أي مشكلة في بيع الأوطان والشعوب للظفر بالسلطة أن تهدد نفوذها، خطورتها الكبرى تكمن في إمكانية تلونها وفقا للمصالح، فمرة هي ديمقراطية علمانية تدافع عن حقوق الإنسان والأقليات، ومرة هي أممية قومية تدافع عن العروبة ضد الغزاة، ومرة أخرى هي تكفيرية تهدف إلى إحياء دولة الخلافة الإسلامية ورفع راية الإسلام، وهي على تنوع أشكالها مستعدة للوصول إلى الحكم بكل الوسائل المتاحة حتى لو كان الثمن دماء مئات الآلاف من المؤمنين والمسلمين والعرب، وحتى لو اضطرت للتحالف المضمر مع الشيطان والتنسيق بين بعضها البعض لاقتسام الغنائم السياسية، ولها أذرع طويلة في أكثر من مكان تدعمها وسائل إعلام عربية وغربية لا تفتأ تعمل على نشر خطاباتها المتنوعة، وتمولها جهات عدة أبرزها غربية كما حدث عند خلق أميركا لتنظيم القاعدة في أفغانستان، دعم أميركا للقاعدة في العراق وسورية، دعم إيران للقاعدة في العراق ثم سورية، دعم إيران وروسيا لنظام الأسد، تنسيق متواطئ بين داعش ونظام الأسد في سورية، دعم نظام الأسد للظلاميين الذين أخرجهم من سجونه كي يطعنوا الثورة خدمة لأجنداته.نعود إلى الجهة الثانية وكما قلت هم تكفيريون معلنون يقصون الآخر ولا مشكلة لديهم في قتله إلا أن أهدافهم ليست سلطوية بل دينية مضللة وهم لا يدركون أن الجهة الأولى تستخدمهم لتحقيق مآربها، وهؤلاء يمكن عزلهم عن المجتمع عبر مراقبة سلوكياتهم ومحاسبتهم وفق القانون إن لم يتراجعوا عن غيهم والعمل على قطع إمدادات فصائل الجهة الأولى عنهم.
نصل إلى الجهة الثالثة المنفعلة والواقعة تحت تأثير السحر الأسود للجهات السابقة، فإما أن يكونوا في طرف الحكام المستبدين كما حدث مع بعض علوييي سورية في عدم تخليهم عن نظام الأسد لا حبا به، بل كرها بالتكفيريين وخوفا منهم واعتقادا أن الأسد سيحميهم من الموت المحتم على يدهم إذا سقط حكمه، أو في طرف التكفيريين كما حدث مع بعض سنة سورية في تعاطفهم المؤقت مع هؤلاء لا حبا بهم، بل كرها بنظام الأسد وخوفا من جرائمه المستمرة بحقهم واعتقادا أنهم سيساعدونهم من شرور الأسد، والطرفان مواقفهما عاطفية لا عقلانية مؤقتة خاضعة لبروبغندا فريقي الاستبداد والتكفير وسيعود معظمها إلى رشده بعد سحب الذرائع وإقامة القصاص العادل للجميع.
في وجه هذه الإرادات المعادية هناك إرادة رابعة تتمثل في يقظة الشعوب العربية الواعية للأجندات الخطيرة المطروحة في الميدان، عبر وعيها الإنساني وتسامحها الديني الذي سيهزم كل الإرادات السابقة كلها، وعلى رأسها إرادة استمرار خوف العرب الشيعة العلويين والسنة من بعضهما البعض وتجيير هذا الخوف لخدمة نظام الأسد وأصحاب الأجندات الظلامية وطهران وتل أبيب، وستهزم إرادة الشعوب إرادة فضائيات الفتن الوكيل الحصري لنظام الأسد في توزيع نسخ آراء التشدد عبر الأثير الفضائي العربي، الخدمة مجانية والدم العربي أيضا بالمجان، فقد تم الدفع سلفا.