الوطن هو القبة التي نجتمع تحتها جميعا، سنة وشيعة، ويجب أن نعلم أنها تتسع لنا ولاختلافنا وتنوع أفكارنا وأعمالنا، وعليه يجب أن نحرص على هذا الانتماء وألا نترك لأعداء الإنسانية مدخلا لحرمة الدماء والأرواح
حينما اشتد أذى كفار قريش على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته إلى توحيد الله -عز وجل- واتخاذ الإسلام دينا لهم من دون أوثانهم، قرر ترك مدينته الأحب مكة والهجرة إلى يثرب بعد عدة لقاءات مع أقوام منها، كان آخرها بيعة العقبة الكبرى في شعاب مكة في موسم الحج، والتي بدأ بعدها أصحابه بالرحيل ليثرب تمهيدا لقدومه إليها.
سبق هجرة الرسول -عليه السلام- للمدينة المنورة أمره لأصحابه بالهجرة للحبشة، وحينما طال طغيان كفار قريش، وهم من أهله وخاصته، رأى أن ينطلق بدعوته من مكان آخر، وجد فيه من يؤيده ويستقبله بحب وتسامح وقناعة بما هو عليه، ووجدوا فيما يدعو إليه صوابا سيجمع شملهم ويبدد خلافهم ويوحّد اختلافهم تحت قبة حق واحدة تتسع للجميع. لم تكن يثرب حديثة عهد في الجزيرة العربية، فقد وجدت قبل أكثر من 1500 عام من هجرة الرسول إليها، وعرفت بتنوع نسيجها الاجتماعي، فقد كان يسكنها أصحاب ديانات متعددة كالوثنيين واليهود والحنفيين، وكان اقتصادها قائما على الزراعة وبعض الأعمال الحرفية، وفيها تتباين الطبقات الاجتماعية التي تحكمها القبيلة وما يتفرع منها كما في أغلب المجتمعات العربية وقتها. كانت هذه المدينة بكل هذا التنوع والثراء موعودة بنقلة تاريخية عظيمة مع هجرة الرسول إليها. ولأنه -عليه السلام- يعلم أن يثرب ستكون مهدا لانطلاق الإسلام بتعاليمه وأنظمته الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فقد حرص فور وصوله إليها أن يؤسس دولة مدنية حديثة وضع لها ميثاقا مكتوبا له عدة بنود، تؤسس لعقد اجتماعي حديث وربما كان الأول من نوعه في الجزيرة العربية والأقدم في التاريخ. عرف ذلك العقد باسم: ميثاق المدينة أو دستور المدينة، وفيه نظم الرسول العلاقات بين سكانها اليهود والأنصار والمهاجرين. يقول ابن إسحاق: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار كتابا وادع فيه اليهود وعاهدهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.
ما يميز هذه الوثيقة وتفصيلاتها أنها تعدّ أنموذجا للدستور الاجتماعي الذي ينبغي التأسي به في التعاملات الإنسانية والسياسية للدول، خاصة الإسلامية منها. وفي تلخيص سريع لبعض ما جاء في هذه الوثيقة نجد أن أكثر ما يلفت النظر فيها ما ورد في أسطرها الأولى قوله: إنهم أمة واحدة من دون الناس، يقصد بهم هنا أهل يثرب بكامل مكوناتهم السابقة أو المنضمين الجدد إليها من مهاجرين مسلمين. ومفهوم الأمة يقابل معنى الدولة والوطن في الفهم المعاصر. وهذا ما أكدت عليه هذه الفاتحة ببيان أن: يثرب أمة واحدة، أي دولة سياسية مفتوحة لا تقتصر المواطنة فيها على المهاجرين والأنصار المسلمين، بل تمتد لتشمل جميع ساكنيها، وهذه الدولة وضع لها دستور ينظم العلاقات والحقوق المدنية والسياسية لا يتعارض وجوده مع وجود القرآن. ومن الأمور المهمة في هذه الوثيقة أيضا التأكيد على حرمة الوطن وحرمة الدم والأرواح، وإقرار حرية المعتقد للمنتمين إلى هذا الوطن. مع إلزام الجميع بالمشاركة في السلم والحرب، والتأكيد على أن الحقوق والواجبات للمواطنين تتساوى مهما اختلفت عقائدهم، مع إشارة الوثيقة إلى منع التحزب والتحالف مع جهات خارجية معادية، ومنح غير المسلمين الأفضلية في التعامل معهم بالبر فضلا عن العدل.
خلال سنوات الدراسة المختلفة تكاد تخلو المناهج الموجهة للطلاب في المراحل الثانوية والجامعية من ذكر هذه الوثيقة أو الإشارة إليها وشرح دلالاتها وما جاء فيها، وبالمقابل نجد دروسا وتلميحا عن بعض الحركات التي حدثت في العالم الإسلامي والعربي، خاصة الصراع بين القومية العربية والوحدة الإسلامية وذكر سير ذاتية لرموزها. فيتوجه تركيز الناشئة نحو الاهتمام بأحد هذه الوحدتين: القومية أو الإسلامية، ويصرف نظره عن أهمية الوطن واعتباره الانتماء الأول للفرد الذي ينبغي أن يصرف إليه اهتمامه مبكرا ويوجه له جهده ومحبته وولاءه.
في وسط هذه الأحداث الدامية والإرهابية التي شهدها وطننا في وقت متقارب من تفجير لمسجد الإمام علي بالقديح، ومحاولة تفجير مسجد العنود في الدمام وأوقع بعض الشهداء الأبطال، ومع ما تحمله مثل هذه الأمور من محاولات واضحة لزعزعة الأمن، وشق صفوف الوحدة الوطنية بإثارة الفتن الطائفية وتأليب كل فريق على الآخر في بيئة وجد فيها راسمو هذه الخطط قابلية للتصديق والتنفيذ، فإن العودة إلى مفهوم المواطنة والانتماء الوطني مهمة جدا، ويصبح تأكيده ضرورة ملحة، وواجب على الجميع - مؤسسات وأفرادا - أن يتبناه ويؤمن به ويرسخه في نفوس النشء. لقد وضع لنا رسولنا الكريم في المنهج الإسلامي السوي أسسا تسير عليها تفاصيل حياتنا كافة، وجاء في مقدمتها ما احتوت عليه هذه الوثيقة العظيمة من أفكار وبنود تعزز الانتماء للوطن وتشجع قيمة المواطنة.
لقد قام بعض المحرضين على الآخر من علماء الدين في مختلف المذاهب بتناسي وتجاوز مثل هذه الوثيقة، وكتبوا وتحدثوا عن التحريض والتآمر وأصول الكراهية واحتكار الأحقية لكل طرف فيهم، حتى أصبح القتل والتفجير مستساغا ومبررا دون اعتبار لحرمة الإنسان ولا قداسة للأوطان. الوطن هو القبة التي نجتمع تحتها جميعا، سنة وشيعة، ويجب أن نعلم أنها تتسع لنا ولاختلافنا وتنوع أفكارنا وأعمالنا، وعليه يجب أن نحرص على هذا الانتماء وألا نترك لأعداء الإنسانية مدخلا لحرمة الدماء والأرواح في هذا الوطن، وأن نعمل جاهدين أن نغلق باب فتنة التطرف الطائفي وما يخلقه من صراع تحاول داعش أن تثيره في وطننا، صراع لو امتد أكثر لن ينتهي بسلام، وأن نكون أمة من دون الناس.