ما زال فينا من يتلصص لزلّة قلم أو لسان حتى يشرع بعد ذلك في تأويلها نحو مقاصده المدفوعة برغبة كامنة في إيقاع الكيد والتشفّي. وما زال فينا من تأخذه حماسة عمياء لرجم إنسان دون أن يتبين

اللهم إنّي قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، ربما لم يسمع الكثيرون عن قصة هذا الدعاء الذي تضرّع به الإمام البخاري في آخر حياته، كما تخبرنا المرويّات. لا شك أنه دعاء مرّ لا يرفعه إلا من داهمه البلاء واقتحمته المحنة.
فما هي قصة محنة الإمام البخاري صاحب الصحيح الذي نعرف الآن أن سواد أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - قد تلقاه بالقبول. تبدأ هذه القصة مع بداية صعود نجم المحدّث محمد بن إسماعيل ودخوله مدينة نيسابور وهو محطّ السمع والبصر، حيث حرّك ذلك كما يبدو كوامن الحسد والغيرة عند غيره من أصحاب مجالس الفقه والحديث، ولم يعجبهم خفوت ضوئهم إزاء انبهار العوامّ والمريدين بهذا المزاحم الجديد. فما لبث الناس أن شرعوا يسمعون ما يثيره أولئك العلماء من تشنيعات ضد البخاري، على رأس تلك التشنيعات اتهامه بالانحراف عن عقيدة أهل السنة والجماعة وطروقه أحد الأقوال المخالفة، فتارة يتهم بالتجهّم وتارة بالقول بمذهب اللفظية، ونحو ذلك من مذاهب لا تتسع مساحة هذا المقال للتعريج عليها وبيانها. كما يقع القارئ المهتمّ عند تعقّب هذه الاتهامات على ضبابية مصدر تلك الإشاعات التي نسجت حول الإمام، فقد نقع حينا على ما يزعمه الذهليّ كبير فقهاء نيسابور في وقته بأن هناك من راسله من بغداد بحقيقة البخاري، ونقع في حين آخر على قول له يزعم فيه أنّه سمع ذلك بنفسه منه. وعلى كل حال فإن تلك الحملة التشويهية قد نجحت في إبعاد البخاري عن نيسابور، بل قد تعدّى نجاحها إلى رفض كثير من مدن خراسان استقباله تأثرا بما بلغهم عنه، إما برفض السلطات المتنفذة فيها دخوله إليها، أو باعتراض الغوغاء والدهماء له وحيلولتهم دون إقامته بها. فما كان منه - رحمه الله - إلا أن توجه إلى قرية نائية من قرى سمرقند وأقام فيها زمنا حتى توفي، حيث لم يصلّ عليه سوى نفر قليل كما يروى.
هي قصة مؤسفة ولا شك، من القصص التي تتجلى فيها مآسي الطبيعة البشرية الجائرة، فمن صاحبة مرتبة دينية يسيء استغلالها فيوجهها نحو التسلط على الآخرين، إلى جماهير غوغائية تنطلق في تأجيج الإشاعات دون رشد، وخذلان رفاق يعلمون الحق دون جرأة منهم على تكبد المواجهة في سبيل نصرة مظلوم.
لا يسع القارئ المنصف إلا أن يتعاطف مع مظلومية الإمام البخاري، ليس لمنزلته العلمية في تراثنا فحسب، بل لأنه حرم حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه في مناظرة متكافئة نزيهة، فسواء كان خصومه محقين في ما رموه به أم أنهم قد افتروا عليه في ذلك، فهم ليسوا معذورين في التشنيع عليه بلا بيّنة ولا في التضييق عليه في سعيه، واستعمال سلطتهم على مريديهم في تحقيق الغلبة لهم إلى الحدّ الذي يقول فيه أحدهم من حضر مجلس البخاري فلا يحضرن مجلسنا، فهو لا بدّ قائل بقوله. فمثل هذه الأساليب التضييقية لا تليق بمن يزعم في نفسه السلوك الأخلاقي فضلا عمن يزعم في نفسه التدين والصلاح.
من تلك الأجزاء المؤلمة التي وجدتها في ثنايا هذه القصة، تلك الأجزاء التي تتكلم عن المواقف التي كان فيها البخاري - رحمه الله - يحاول نفي بعض التهم عن نفسه وتأكيده أحيانا على توجيه أقواله على غير ما كان يعنيه بها، فلا يصدقه أحد أو يتراجع عن اتهامه له. فمن عادة الناس غالبا أن يدافعوا عما ينطبع في قناعاتهم أول مرة وإن لم يقم انطباعهم ذلك على دليل حقيقي.
هذه بعض اللمحات من قصة المحنة التي تعرض لها الإمام البخاري رحمه الله، والقصة مبسوطة في المصادر التراثية لمن أراد التبين أو المعرفة عنها بشيء من التفصيل.
إني عندما أتأمل مثل هذه المشاهد في تراثنا لا أمنع نفسي من التساؤل عن حاضرنا وإلى أيّ مدى هو مشابه لذلك التراث في قابليته لوقوع مظالم كهذه؟ وكثيرا ما يعود الفكر إليّ آسفا بإجابته أن شيئا من ذاك لم يتغير! فما زلنا نحن نفس الأسلاف الذين نعلق مشانقنا الفكرية ضد من نشعر تجاهه بارتياب وإن لم يكن له حظه من التبرير المقنع. وما زال فينا من يتلصص لزلّة قلم أو لسان حتى يشرع بعد ذلك في تأويلها نحو مقاصده المدفوعة برغبة كامنة في إيقاع الكيد والتشفّي. وما زال فينا من تأخذه حماسة عمياء لرجم إنسان دون أن يتبين.
نعم ما زال فينا كل أولئك، وما زال أغلبنا غافلا عن تلك الآية الحكيمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين.