مأساة 'القديح' كما هي الآن جرح الوطن، يمكن أن تتحول إلى فكرة قانون الوطن المناهض للغلو والتطرف، وأن تمثل نقطة مناسبة لسن قوانين تجريم العنصرية والطائفية بكافة أشكالها

من وجهة نظري أرى أن القانون هو أحد أهم الفنون التي ابتدعها الإنسان، ليجد من خلاله طريقة تمكنه من الخروج من الغابة الحيوانية، إلى الصورة الإنسانية التي تمثله، وهذه الصورة ترتكز في مضمونها على محاولات فك تعقيدات الاختلافات الفكرية والعادات والتقاليد الاجتماعية والثقافية.
القانون بحد ذاته مجموعة صيغ معقدة من وجهات النظر والاقتراحات والأفكار، لذلك يخضع لضرورات الحوار والتوافق والاتفاق، ولا بد من دعمه بقوى تنفيذية مختلفة، ليظل مصدر اطمئنان وثقة المجتمع أفرادا وجماعات، وإلا فإنه سيفقد قيمته وقوته التي يعول عليها. فالقانون رغم تعقيده يعتبر أساسا جوهريا يتفق عليه الجميع، لتحقيق أكبر قدر من نجاح مبدأ التعايش في المجتمعات الإنسانية، وجعله أحد أهم أعمدة بنيتها وكيانها.
والمشهد في الشارع العربي يعبر بصراحة، عن احتياجنا لسن قوانين واضحة ومحددة أكثر من أي وقت مضى، لتضييق الخناق على أولئك الذين يحاولون تمرير أفكارهم السوداوية واختطاف العقول، وكذا لردع المُكفّرين والمتطرفين والعنصريين وملاقيف الفضيلة والطريق إلى الله تعالى.
وبحاجة إلى تشريعات تُجّرم أولئك الذين يؤججون نار الفتنة، ويؤيدون الأفعال البغيضة، ولا يخجلون من التلون ساعة الحزم بعد الكارثة! فالتحريض المبطن على الكراهية والقتل، ثم إنكار المسؤولية من جانب المحرضين؛ مهزلة لا يجب أن تخرج من سلطة القانون وطائلة العقاب، وإلا فلا يجب أن نستغرب حين يخرج علينا جيل تربى على سماع عبارات التكفير والتحريض وما يكرس الكراهية بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد.
إذ إن مثل تلك القوانين والتشريعات ستتكفل على الأقل بتقييد القطيع المندفع من فريق التأييد غير الواعي بما يفعل على عماها، وستسمح في الوقت ذاته بإطلاق أجنحة الفكر المستنير، والدعوة إلى التسامح والتعايش، وهنا تكمن عبقرية القانون وضرورة وجوده.
فالعقل العربي والإسلامي بقي قرونا خارج الوعي بالمفاهيم العليا للحرية والحريات وممارساتها، وظل يفهمها على أنها الفوضى والفساد، وهنا تكمن أكبر قضاياه معها من جهة، ومع من أرادوا ويريدون له أن يراها من هذه الزاوية الحمقاء.
ما حدث في القديح من بشاعة، هو نتاج فكر مريض غاب عنه العقل تماما، ونتيجة لسلوكيات منحرفة تمت تغذيتها عبر طرق كثيرة مختلفة، بفكر منغلق لا يحمل في قراره إلا الحقد والسواد، وهو أيضا خروج على منهج الحاكمية في الإسلام التي منها الاستخلاف والشريعة والمنهاج، ناهيك عن خروجه عن قيمة الدين والأخلاق، من خلال بثه ما يشكك في إيمان الناس، ويزعزع أمن البلاد والعباد، ويثير العداوة والبغضاء.
وحين يطل علينا من يحاول تهويل خطر الآخر، وجرنا إلى مساحاته الفكرية الخربة، في مسألة خطر الشيعة والتشيع، والقول بضرورة معاداتهم، فإن الواجب علينا ألا ندع لهم الحرية في اختطاف العقول، وتمرير لغتهم الفكرية المتهالكة التي لا تجد أحيانا ما يسندها.
فتعداد الشيعة في العالم حسب إحصائية عام 2009 بموسوعة الويكيبيديا، يبلغ حوالي (155 إلى 200) مليون، من المجموع الكلي للمسلمين البالغ 1.62 مليار نسمة، تبلغ نسبة المعتنقين للمذاهب الشيعية منهم 10 – 13% فقط، والقول بخطرهم الداهم، هو جزء من التصعيد غير المقبول من جانب المحرضين، والذي نراه يتحول من الديني إلى السياسي حاليا على كلا الجانبين، وما يقابله من ردود أفعال كالدعوة إلى تشكيل حشود شعبية للدفاع عن الشيعة مثلا، وهي فكرة غير مقبولة على الإطلاق من أي كان داخل الوطن الواحد أو خارجه، لأن ذلك من شأنه أن يعيدنا إلى المربع الأول في قانون الغاب.
مأساة القديح كما هي الآن جرح الوطن، يمكن أن تتحول إلى فكرة قانون الوطن المناهض للغلو والتطرف، وأن تمثل نقطة مناسبة لسن قوانين تجريم الطائفية بأشكالها كافة، والتحريض على الكراهية، والتحرش والعنصرية، وتضع حدا للمندسين من أصحاب الفكر الضال بين ظهرانينا، لكي يستمر مفهوم الوطن للجميع قويا.