هناك مراكز قوى نافذة في بعض الجهات الحكومية قد تتعارض مصالحها مع مشاريع تقنية المعلومات، وبالتالي تقاوم هذه المشاريع بكل قوة وتحاول إفشالها قدر الإمكان

هناك العديد من المسؤولين في بعض الجهات الحكومية الذين يهمهم أن تكون لديهم واجهة براقة توحي بتطورهم الإداري وتجعلهم في مصاف البيروقراطيين في الدول المتقدمة.
فكثيرا ما نسمع عن طنطنات هؤلاء المسؤولين الذين يتشدقون بإدخالهم التقنية الحديثة (الإدارة الإلكترونية) والنظم المعلوماتية الجديدة في دوائرهم ومؤسساتهم بحجة مواكبة التطورات الحديثة والتحول إلى الوسائل الإلكترونية أو تسهيل الأمر على المراجعين والموظفين.
لعلي لا أبالغ إن قلت إن التقنية الحديثة ونظم المعلومات أصبحت في بعض الجهات الحكومية مظهرا من مظاهر البذخ الإداري، وصورة من صور إهدار المال العام، ومجرد واجهة يزحف عليها الغبار، فما زالت المعاملات الورقية في بعض الجهات الحكومية تصل إلى ما نسبته 90%، بالرغم من وجود البرامج الحاسوبية وعقود التشغيل التي تصل تكلفتها إلى مئات الملايين من الريالات!.
قد يقول قائل بأن الإجراءات اليدوية تكاد تكون أفضل من استخدام التقنية الحديثة في التعاملات الحكومية، فإذا كانت مميزات التقنية سرعة الإنجاز وحفظ المعاملات فإن الواقع يقول العكس تماما، بل أصبحت عبارة النظام عطلان عبارة بيروقراطية بديلة عن العبارة المعتادة راجعنا بكرة!.. فأين المشكلة؟
في دراسة ميدانية أجرتها إحدى الشركات الأجنبية على تسع دول عربية وتضمنها تقرير صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تبين أن الواقع العملي يشير إلى وجود فجوة هائلة بين الفوائد المرتقبة التي يفترض أن تقدمها نظم المعلومات للأجهزة الإدارية بالدول العربية وبين الفوائد التي تم الحصول عليها بالفعل، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها
أن نظم المعلومات قد تم إدخالها إلى الوحدات الإدارية بدون إجراء أية تغييرات في الهياكل التنظيمية أو في الإجراءات التشغيلية، فقد كان استخدام نظم المعلومات موجها أساسا لأتمتة الإجراءات اليدوية الموجودة.
يتم إدخال تقنية المعلومات في كل إدارة حكومية، وأحيانا في كل قسم من أقسام الإدارة بشكل مستقل عن الأقسام والإدارات الأخرى، ومن النادر وجود سياسة مشتركة بين الإدارات لتنفيذ واستخدام المعلومات.
الموظفون لا يسهمون بشكل فاعل في تطوير واستخدام نظم المعلومات والحاسبات الإلكترونية في الأجهزة الإدارية، لعدم وجود التأهيل والتدريب المطلوب.
عدم توفر البنية التحتية المناسبة التي تضمن تقديم الخدمات المعلوماتية بالشكل الجيد، وعدم اتباع الطرق العلمية لتحديد الاحتياجات اللازمة لمختلف وحدات وتجهيزات الحاسبات الإلكترونية.
مشكلات تتعلق بتشغيل الأجهزة، كالأعطال وسرعة الإصلاح وإجراء عمليات الصيانة الوقائية ومسؤولية الشركات الموردة والتزامها في تنفيذ العقود.
بالإضافة إلى ما سبق استعراضه من أسباب ومعوقات تحدثت عنها الدراسة الميدانية سالفة الذكر، هناك إشكالية أخرى تواجهها الإدارة الحكومية في مجال تقنية المعلومات تتمثل في أن بعض الجهات الحكومية تحكمها الفردية لا المؤسساتية.
فبعض الجهات الحكومية تحكمها التوجهات الشخصية الفردية لمتخذ القرار فيها، وبالتالي فإن مشاريع تقنية المعلومات وأولوياتها تخضع لهذه التوجهات، وهذه الثغرة أوجدت مساحة كبيرة لمن أراد أن يستفيد من هذا الضعف لتحقيق مآربه وأهدافه الشخصية دون محاسبة أو مساءلة.
ولهذا قد نجد في بعض الجهات الحكومية مشاريع لتقنية المعلومات متعثرة تتعاقب على تنفيذها العديد من الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص بالإضافة إلى غموض أهداف هذه المشاريع، والعجيب أكثر وجود أكثر من مشروع على أنشطة واحدة دون رابط بينها، كما توجد مشاريع أخرى لتجديد وتطوير مشاريع قائمة.. فمن هو المستفيد من هذه الفوضى؟.
أما بالنسبة للشركات والمؤسسات المتعاقدة مع الجهات الحكومية، فإنها تدرك جيدا وجود هذه الثغرات وتستغلها أمثل استغلال، فهي في الغالب غير متخصصة في مجال تقنية معلومات وتعاني نقصا في الكوادر التطويرية كالمحللين والمبرمجين ومهندسي الصيانة وغيرهم، حيث إن هذه الكوادر هي وحدها القادرة على الارتقاء بمستوى استخدام تكنولوجيا نظم المعلومات بشكل علمي وفعال.
ومجمل عمل هذه الشركات والمؤسسات يقتصر فقط إما على شراء برامج حاسوبية جاهزة وتركيبها، وهي في الغالب تفشل في تشغيلها وكذلك تفشل في تدريب الموظفين على استخدامها، فهي في الحقيقة مجرّد وسيط في توريد هذه البرامج، أو تقوم هذه الشركات بدراسة الإجراءات الإدارية المعمول بها في الجهة، وهي في الغالب إجراءات قديمة وتقليدية، تقوم الشركة بتلخيصها، ثم تقتبس من المناهج الحديثة للإدارة لتضعها كتوصيات استشارية في تقريرها.. وفي مقابل ذلك تحصل الشركة على ملايين الريالات؟!..فأين التطوير وأين تقنية المعلومات؟
وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الجهات الحكومية تعاني إشكاليات تتعلق بالهياكل التنظيمية القديمة، فالصلاحيات والمسؤوليات غير واضحة ومتداخلة، أو تم تحديث هذه الهياكل ومن ثم استغلال تحديث هذه الخرائط بهدف خلق نوع جديد من المناصب الإدارية وزيادة أعداد المرؤوسين لأهداف شخصية بحتة؛ وبالتالي تجاهل الأهداف الحقيقية للجهة الحكومية.
بالتالي فإن أحد جوانب تأثير تقنية المعلومات على الجهات الحكومية هو استخدامها هياكل تنظيمية جديدة، يتم فيها تخفيض عدد المستويات الإدارية، وتوسيع نطاق الإشراف والرقابة، ويتم الاعتماد على البريد الإلكتروني والبرمجيات في تحقيق التنسيق بين الموظفين الذين يؤدون مهام مشتركة، ويقوم المسؤولون بتفويض مزيد من مسؤوليات اتخاذ القرارات للمستويات الأدنى، مما يجعل الجهات الحكومية أكثر استجابة للمواطنين، وهذا التغيير الهيكلي مرفوض تماما عند بعض المسؤولين الذين سيفقدون بعض الصلاحيات أو الذين يمتازون بالإدارة المركزية، ناهيك عن تحديد المسؤوليات التي يتهرب منها كثير من البيروقراطيين.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك مراكز قوى نافذة في بعض الجهات الحكومية قد تتعارض مصالحها مع مشاريع تقنية المعلومات، وبالتالي تقاوم هذه المشاريع بكل قوة وتحاول إفشالها قدر الإمكان!.
الإدارة الحكومية تتحول الآن إلى إدارة إلكترونية بعلات الإدارة الحالية، وهذا التحول يواجه تحديات كثيرة.. والذين يسيئون استخدام التقنية من أجل أهداف شخصية، فستحبط أعمالهم وسينقلب السحر على الساحر، وسيحيق المكر السيئ بأهله.