لم يستنفد شعب من وسائل القمع وكبح الحريات مثلما استنفد الشعب العربي، فهذا الشعب الخارج كثير منه عن الأسس التربوية والتعاليم الراقية المجيدة بفضل الحكومات العسكرية التي أدمته وأخرته كثيرا، عرف الاضطهاد صغيرا وتلذذ به كبيرا، بحيث بدأ معه العسف والقيد والحشر منذ ولادته.. كي يتعلم كيف يكون مستكينا في كبره.
أما كيف؟ فحين يولد لدى الشعب العربي وبعض بلدان قليلة في الوضع المتأخر نفسه، يقيد خلالها الوليد بحبل يلتف حول جسمه، ويشد حتى يكاد يخرج عظمه من جلده، وهي حجة تاريخية لأجل أن تلتئم أطرافه ويتجمع لحمه، والفعل المتداول لذلك شدّه بحبل أبيض يطلقون عليه القماط، بحيث يلفونه عليه من أسفل قدميه إلى أعلى صدره، وتكبل به يداه وقدماه، ويظل على هذه الحال نحو الأشهر الستة الأولى من ولادته، وإن سألت إحدى العجائز الجليلات سرعان ما تقذفك بالمعلومات التي يعجز أي طبيب عن تفسيرها: نرص عظامه ونسوي وسطه وجذعه ونكرب على يديه ورجليه على شان تشتد، وبصفة عامة هو لا يتحرر منه إلا حين تنظيفه، وكأن لحمه الطري وعظامه اللبنية يحتاجان إلى هذا الجور الاجتماعي، كي تشتد وتقوى.
سجين مكبل لا يتحرك منه إلا رأسه، وحينما يرفع عقيرته بالاحتجاج والصياح، فالأكيد وحسب رأي أمه أو من تعنى به، فهو إما جائع أو عاملها على نفسه، ولا تفكر أي منهن أن الأسير المقيد، يشتكي جور الأسر وشدة وألم الرباط.
ما علينا من ذلك، لكن هي الثقافة العربية التي كبلت مواطنيها أطفالا وأخرستهم كبارا، وكي لا اُتهم بالادعاء على العرب، فقد قمت من جهتي بالبحث عن هذه العادة فوجدتها عربية ولبعض دول أفريقية نصيب منها، وعليه عرفنا منبع الاضطهاد وترويع النفس المطمئنة، فالممنوعات كثيرة والمقدسات أكثر، حتى أتى زمن بات التفكير من المرفوضات، لأنه قد يفضي إلى الفعل.
قد نكون كعرب ممن شُدّ قِماطه وقُيدت أطرافه.. لكننا نحمد الله أننا لسنا كتلك البلاد العربية التي حكمها العسكر، فحلت الويلات بالصغار قبل الكبار، لم يعرفوا الاستقرار من القماط وحتى القبر، لتقيد أطرافهم وأفكارهم، حتى خرجت الناس من جلودها لترفض عبثهم وتسلطهم، وها هي النتيجة فالعسكر الذين حكموا بالرشاش والمدفع، لن يستكينوا ولن يتركوا أماكنهم بسهولة، وعليه تهدمت البلدان وغاب الاستقرار وكثر العبث ويالسوء حال اليمن وسورية والعراق وليبيا وغيرها.
تلك الشعوب التي استمر معها قماطها حتى قبرها.. عرفت الآن أن الخليج وأهله اكتفوا بالربط صغارا لكنهم تعايشوا مع حكامهم كبارا.. وباتوا لا يعرفون شر القيد.. ولا سوء المنقلب كما هم عرب الحكومات العسكرية.
لن نطيل في أمر القماط، إلا أنه وجب أن نعلم أن في فرضه على العرب حكمة عظيمة، كي يعتادوا عليه كبارا بعدما أبكاهم حتى ألفوه صغارا.. ولعل الأمهات الجدد ممن يرفضن القديم أن يباشرن التفكير بالتخلي عن القماط، لأن هناك بعض العرب لن يتخلى عن الحبل والقماط للصغير والكبير ومن الأسلم أن يعتادوا عليه.