مفهوم الشهادة ملتبس في وقتنا الحالي، فكل من يحمل سلاحا ويقتل به الآخر لأي هدف في نفسه، أو دفعه إليه تنظيم يتبعه، أو أفكار وتوجهات تستبيح حرمة دماء الآمنين من البشر؛ فإنه يلقب بالشهيد
ماذا لو عادت ابنتك في المرحلة الابتدائية يوما (أو ابنك) وهي تقول بكل ما يحمل قلبها الأبيض من البراءة والطهر والنقاء: أريد يا أمي أن أموت شهيدة؟ هل سيكون طلبا عابرا أم ستكون لك وقفة معينة أمامه؟ لقد أُسقط في يدي وهذا الطلب يوجه لي قبل عدة أيام، خاصة وأن مفهوم الشهادة ملتبس في وقتنا الحالي. وأصبح كل من يحمل سلاحا ويقتل به آخر لأي هدف في نفسه، أو دفعه إليه تنظيم يتبعه أو أفكار وتوجهات يتبناها لاستباحة حرمة دماء الآمنين من البشر؛ يلقب بالشهيد، ويُهيأ بطريقة درامية لهذا اللقب ولو بالعطور والبخور!
فكرة الشهادة ليست مستحدثة في ديننا الإسلامي، فهي مذكورة في القرآن الكريم في عدة مواضع، وجاء لها بعض التفصيل في السنة النبوية بأحاديث صح فيها أن الشهادة قد تكون لأصناف خمسة من الموتى أو تزيد. ولكن الشائع والمعروف لدى الكثير من الناس أن الشهيد هو من يُقتل في سبيل الله وهو يقاتل الكافرين. وأصبح الطموح للموت شهيدا غاية لدى الكثير لما في هذه الميتة من مزايا عديدة جاءت في الأثر. فكرة الشهادة ليست غريبة على المجتمع المسلم في بعض الشخصيات التي نصبت نفسها رموزا كما لدى التنظيم الإخواني الذي يلقب مؤسسه حسن البنا بالإمام الشهيد. ثم اتسعت وعُززت في منتصف الثمانينات والتسعينات الماضية، ولا زال يتلقفها الجيل الحالي بسبب الأحداث المتسارعة والدموية في تلك الفترات، خاصة مع انخراط الكثير من العرب والسعوديين بالذات في الجهاد مع الأفغان ضد السوفييت. وقتها بدأت القصص عن الشهادة وأخبار الشهداء تستشري بين ذلك الجيل حتى أصبح الذهاب لأرض المعارك هدفا ساميا لدى الكثير من الشباب تباركه الأُسر والمدارس، وتدعو له الخطب والمحاضرات، ويحرض عليه رجال الدين في تسجيلاتهم ومنشوراتهم.
امتدت بعدها الساحة المتاحة لنيل الشهادة من أفغانستان إلى البوسنة والهرسك والشيشان، ولأي مكان يفترض فيه وجود كفار ينبغي قتالهم، وصار التباهي بين الأسر أن من بينهم شهيدا كالتباهي بحيازة ملك عظيم. وهالة الشهيد الذي قتل وهو في حرب ضد الكفار خُلعت على شيخ المجاهدين عبدالله عزام، كما يسميه العرب الأفغان الذين أسسوا تنظيم القاعدة، وعلي الزرقاوي الأب الروحي لتنظيم داعش، وهو اللقب الذي يطلقه البعض على أسامة بن لادن وغيره من رؤوس الإرهاب.
هذا الإشكال في توزيع الألقاب بين من يمكن أن يكون شهيدا بالمعايير القرآنية المنصفة ومن يتخذ من هذا الأمر وسيلة لتحقيق غاياته وأهدافه الكبرى؛ استطاع أن تستغله بعض التنظيمات الإرهابية كـالقاعدة مثلا التي نجحت مسبقا في تطويع عقول الكثير من الشباب للانضمام لصفوفهم، ليس بالقوة، بل بالوعود والمنى بما للشهيد من جزاء يختلف عن الآخرين، وهذا ما يتبعه الآن التنظيم الإرهابي المعروف بـداعش من تحريض للحاق بصفوفه مع ذات الوعود بنيل الشهادة وما يتبعها من حور عين ونعيم مقيم. وهذا ما يلقى في نفوس الناشئة المندفعين بحماس الشباب وقلة الخبرة والتجارب للبحث عما يُثبت وجودهم ويعزز من قيمتهم الإنسانية بالارتماء في أحضان مثل هذا التنظيم الإرهابي ما دام سيحصل في النهاية على لقب أُفرط في تزيينه لهم عبر حياتهم الاجتماعية وتربيتهم الدينية المسبقة.
في خطبة قديمة لزعيم داعش أبوبكر البغدادي دعا أنصاره في كافة أرجاء العالم لمبايعته وحثهم على الجهاد ضد أعدائهم وذكر من ضمن هؤلاء الأعداء السعودية. ويبدو أن المؤيدين لهذا التنظيم في الداخل لا يقل حرصهم عن أولئك خارج الوطن على مجاهدة من لا يتفق مع توجهاتهم من أبناء دينهم ووطنهم، ولا يقلون عنهم عددا. وأصبح الاستشهاد في سبيل تحقيق دعوات هذا التنظيم الخبيث الذي يزداد شراسة ودموية مع الوقت غاية لهم. وهذا ما أعلنت عنه وزارة الداخلية قبل عدة أيام في إنجازها المهم لمحاربة تنظيم داعش المتمثل في القبض على المطلوب نواف العنزي المشتبه به في قضية إطلاق النار على رجلي أمن، وفي قبضها أيضا على عناصر الخلية المكونة من 93 شخصا بينهم امرأة كانوا يعملون على تنفيذ عمليات إجرامية تستهدف مواقع وشخصيات أمنية ومواقع حيوية في مناطق مختلفة من المملكة. وكما جاء في بيان وزارة الداخلية أن مجموعة من هذه الخلية أسمت نفسها جند بلاد الحرمين، وأخرى قامت بتجنيد عناصرها للجهاد الإلكتروني وإغراء صغار السن عبر وسائل التواصل الاجتماعية للانضمام لهذا التنظيم وتجنيد امرأة بين صفوفهم بهدف استدراج إحدى الشخصيات العسكرية واغتياله. مثل هذه الخلية المعلن عنها ما كانت لتوجد ولا تهدد أمن واستقرار الوطن والعبث بمقدراته لو لم تجد لها بيئة حاضنة تعزز الفكر الجهادي المنحرف في نفوس الشباب، وتجعلهم وقودا سهلا لتنفيذ أعمالهم تحت ستار من التدين وتكريس فكرة الشهادة والشهداء الذين يقدمون أرواحهم لجهاد الكفار، وأنهم مسلمون يعيشون فتن آخر الزمان وغرباء قابضون على الجمر، وغيرها الكثير من الخطاب الذي يروج له منذ سنوات ويعيد تشكيل نفسه بصور عدة في مختلف الأجيال.
بالعودة للطلب الذي عادت به ابنتي في الصف الخامس من مدرستها الأسبوع الماضي بأنها تريد أن تموت شهيدة؛ قرأت اليوم حوارا ثريا نقله أحد المواقع العربية عن جريدة ليزيكوLes Échos الفرنسية مع العالم السياسي المتخصص في الشؤون الإسلامية (أوليفييه روي) تحدث فيه عما يدور حاليا في المنطقة وتطرق فيه إلى داعش وسبب انضمام عدد من الشباب الفرنسيين المسلمين وغير المسلمين لصفوف التنظيم الإرهابي فقال في معرض حديثه: إن جزءا من الشباب ساروا نحو العدمية وإنه توجد نزعة وجودية لدى الشباب الساعي إلى المغامرة -متلازمة: أريد أن أكون بطلا- ومع وجود مرجعية إسلامية حققها لهم داعش، موضحا أن هذا يمثل مشكلة اجتماعية تتجاوز الإسلام، وعليه: يجب علينا تقديم نماذج مضادة معتبرا أنه تحد للمدرسة التي يجب أن تركز على الأخلاق دون إعطاء دروس فحسب، وأن تعيد الثقافة للشباب المرتبك، وتجري نقاشات في الصفوف، حتى وإن سمعت بعض الأهوال؛ لأن إدارة الصراعات من مهمات المعلمين، كما يجب فسح المجال لظهور نماذج من المسلمين المعتدلين لا أن يُبتكر دين معتدل.
ولو تحقق مثل هذا الاهتمام أو بعضه بما يدور في المدارس من حوارات ومواد وأفكار تمرر للنشء لأصبح الشاب وهو يواجه مثل هذه الدعوات من خفافيش الإرهاب؛ قادرا على أن يميز الصحيح منها والخاطئ، ومدركا حينما يتمنى أمرا (كالشهادة) أنها ليست غاية يقوم معها بقتال وطنه ومن فيه أو معاداة البشر وانتهاك إنسانيتهم، بل شرف قد يناله حينما يُثبت إنسانيته وهو يذود عن الحياة على هذه الأرض.