ما يجعل فهم الحرب، قبل أو أثناء اندلاعها، صعب على الفهم المباشر، هو أن من يخطط للحرب قد يجهز لها أكثر مما يحتاج إليه حسب خطته ويحركها معه لميدان المعركة، وذلك من أجل إرباك الخصم وشل قدرته على التحرك والمناورة
قرار إيقاف عاصفة الحزم في هذا التوقيت بالذات، قرار حكيم، ينم عن حكمة من اتخذه السياسية، ودرايته بظاهرة الحرب وتشعباتها وتعقيداتها، وفوق كل هذا وذاك، قراءاته الذكية للتاريخ وسبر أغواره، لكشف تجلياته والقبض على إخفاقاته. إن من اتخذ قرار الحرب وتحمل مسؤولية ذلك على عاتقه، لهو وحده لا غيره، من يفهم لماذا بدأت؟ وأين ستتحرك؟ ومتى ستنتهي؟ حيث إن أسرار الحرب هي الراسم لاستراتيجيتها والمحرك لعملياتها الحربية، وعلم أسرار الحرب لا يتوفر إلا لدى صاحب قرار الحرب وقلة من قياداته ومعاونيه المقربين. وما لنا نحن، كمراقبين إلا تخمين، لماذا بدأت الحرب؟ وأين ستتجه؟ ومتى ستتوقف؟ وتخميننا هذا قد يقارب الواقع وقد يبتعد عنه وقد يكون حسب ما نتمناه من الحرب، لا ما خطط أصلا لها.
إن البهجة أو الإحباط من إيقاف أي حرب - من قبلنا كمراقبين - لا ينم بالضرورة عن حقيقة ما خطط له وما جرى فعلا في الحرب. إنها مجرد إسقاطات لما نتمناه من نتيجة الحرب لا لحقيقة الحرب نفسها. وهنالك قلة من المراقبين لأي حرب، يراقبونها بعين المتخصصين بعلومها، وهؤلاء يمكن الاستفادة من تحليلاتهم للحرب وهي قائمة، حيث التخصص يلجم التمنيات لديهم ويتعالى عليها، ليغوص في طبيعة الحرب ويفكك تعقيداتها ويسهل لنا فهمها المقارب لواقعها.
ظاهرة الحرب - رغم كونها قديمة قدم الإنسان - معقدة جدا، قدم تعقيد نفسية ولاوعي الإنسان، حيث طبيعة الحرب تتعلق بصراع إرادات. ولا يعلم حقيقة الإرادات غير أصحاب الإرادات أنفسهم الذين دخلوا حلبة الصراع من أجل تحقيقها أو تأمينها على أرض الواقع. وما يجعل فهم الحرب، قبل أو أثناء اندلاعها، صعب على الفهم المباشر، هو أن من يخطط للحرب قد يجهز لها أكثر مما يحتاج إليه حسب خطته ويحركها معه لميدان المعركة، وذلك من أجل إرباك الخصم، وشل قدرته على التحرك والمناورة. وهذا ما يجعلنا نخطئ في فهم حركة الحرب والهدف من ورائها، نحن كما الخصم نفسه في الميدان، حتى ولو كان الجيش جيشنا، وهذا جزء من فن إدارة الحرب، أو كما ذكرت أعلاه، أسرار الحرب.
حياة الإنسان بشكل عام، تتعقد كلما تطورت وتعددت أدوات وآليات حياته، من أدوات وآليات مطبخه حتى أدوات وآليات حربه. إذاً فكلما تطور الإنسان وتقدم وسهلت حياته بأدوات وآليات وتقنيات حديثة تريحه في ممارسة حياته اليومية تعقدت حربه وأصبحت أكثر تعقيدا وخطورة. أي أنه كلما أصبحت الحياة مريحة للإنسان بفضل العلم والتقدم التقنية أصبحت الحرب مرهقة وقبيحة له. الإنسان يتقدم من أجل الحرب، لكن ذلك ينعكس لاحقا إيجابا على زمن السلم. الطائرة أول ما استخدمت وطورت كأداة من أدوات الحرب لتكون مدافع طائرة Top Guns، وبعد ذلك تم استخدامها كوسيلة مواصلات مدنية، لا يستغني الإنسان عنها. وقس عليها الكمبيوتر وأدوات الاتصال السلكية واللاسلكية والمحركات النفاثة والطاقة الذرية وغيرها التي استخدمت بعد عقود، لتيسير الحياة في زمن السلم. أي أن الإنسان يتقدم علميا وتقنيا من أجل الحرب، ثم ينعكس بعد ذلك على حياته في زمن السلم. وبمعنى آخر كلما تقدم العلم لدى الإنسان يسر له حياته، وبالوقت نفسه عقد عليه حربه.
ومن هنا تخطينا ما كان يعرف بالحرب المحدودة Limited War التي تدار على الجبهات، ولا دخل فيها للمدن والمدنيين، إلى ما يعرف بالحرب الشاملة Total War والتي تعتبر الأهداف المدنية أهدافا استراتيجية مشروعة ومقدمة في أحيان كثيرة على الأهداف الميدانية التكتيكية، خاصة قبل التحام الجيوش في جبهات القتال أو أثنائها.
ذكر القرآن الكريم أن القتال كره لنا، أي كره للإنسان مع كون الحرب حينها محدودة جدا، تقع في ساحة محدودة جدا خارج المدن، وبين أشخاص محدودين كما في معركتي بدر وأحد، وغيرهما من معارك قديمة. أما الآن وقد أصبحت الحرب شاملة، يروح ضحيتها حتى المسالمين والنساء والأطفال، فهي الآن يجب أن تكون أكثر كرها ومقتا لنا إلا في حالة الدفاع عن النفس، إن لم يكن متاح تفاديها. إذا فالحرب أصبحت معقدة لدرجة إبادة البشر والشجر والحجر، وعليه لا يطلبها أو يفرح بها إلا الجهلاء وعديمو الإنسانية، ولا يتحاشاها ويكرهها إلا كل إنسان سويّ.
وما يجعل الحروب معقدة كونها أنواعا، كل نوع منها يستخدم للوصول إلى هدف سياسي محدد. أي في عودة لصراع الإرادات، للوصول إلى أهداف سياسية محددة، ما يعني أن الحرب وسيلة وليست غاية. فإذا تجاوزت الحرب هدفها السياسي المحدد تحولت إلى حرب تورط Involvement War، والتي كما يقال ينقلب فيها السحر على الساحر. حروب التورط تبدأ عادة من معلومات خاطئة تصل إلى القيادة السياسية التي تخطط للحرب على أساسها، أي تكون الظروف التي تجابهها في الميدان أكثر صعوبة وتعقيدا مما توقعت، والتي رسمت عليها خططها الحربية. هنالك أمثلة كثيرة، ولكن خير مثالين كلاسيكيين هما تورط الجيوش الأميركية في فيتنام 1956- 1975، وتورط الجيوش السوفيتية في أفغانستان 1979 - 1989. والتورط يبدأ بأن يتم أولا إنزال أو إدخال قوات برية محدودة، لتأمين حلفاء هنا أو هناك، فتقع قوتها المحدودة في ورطة لم تحسب حسابها، حيث تجابه ما لا قدرة لها عليه، ثم يتم إرسال قوات أخرى لإنقاذها، وتتورط الأخرى، وعليه يتم إرسال معظم جيشها من أجل إنقاذ جيشها، وعليه تتورط في وحل المنطقة المستهدفة، خاصة إذا كانت مكونة من غابات أو مناطق جبلية. وهنا يستغل خصوم الدولة المتورطة الفرصة لدعم خصمها وإمداده بالمال والسلاح وتطول الحرب أكثر مما خطط لها حتى ترهقها ماديا وعسكريا وأخلاقيا. فتخرج مهزومة وقد دفعت أثمانا باهظة مقابل تحقيق هدف سياسي بسيط، لم تستطع حتى الحصول عليه.
وهنالك نوع آخر من الحروب تسمى حروب تحريك الوضع السياسي. تشنها الدول من أجل إرغام خصومها على الجلوس على طاولة المفاوضات والحصول من خلالها على أوراق تفاوضية تدعم مواقفها في المفاوضات السياسية القادمة. وخير مثال على ذلك حرب 1973 بين العرب وإسرائيل. والفرق بين حرب التورط وحرب تحريك الوضع السياسي، دقيق جدا، أي من الممكن أن تدخل دولة حربا على أنها حرب تحريك وضع سياسي، وتتحول بالنسبة لها، بقدرة قادر، إلى حرب تورط.
وعليه أعتقد أن حملة عاصفة الحزم العسكرية هي حرب تحريك وضع سياسي محدودة داخل اليمن، من أجل إرغام الخصم على الجلوس على طاولة المفاوضات والدخول في مفاوضات جادة، ليعم الأمن والسلام والتطور لليمن كافة، دون استثناء أحد من أهلنا فيه. شكرا لقيادتنا الحكيمة، التي عرفت متى تبدأ الحرب؟ كحرب تحريك وضع سياسي. ومتى تنهيها؟ وعليه سنخرج بإذن الله، بأقل الخسائر، وسنحصل على أكثر المكاسب، وهو أمن وسلامة أهلنا في اليمن وحماية حدودنا الجنوبية من عبث العابثين.