من الظواهر الثقافية الناجمة عن الخلط بين: الديني، والسياسي، اختلاق صراعات لا أصل لها في ذاتها، وتحويلها – في أذهان العامة - إلى صراع بين: الحق، والباطل، من خلال المزايدة بالدين، وهي ليست كذلك في حقيقتها، والدليل أن الزمن يذيبها، ليختلق الملبسون على عباد الله أشكالا جديدة من الصراع، هدفها الرئيس مصادرة كل فعل أو فكر، لا يكون لهم، أو لا تكون لهم فيه يد، أو دور، سواء أحسن القائمون على ذلك الفعل، أم أساؤوا، بمعنى أن القضية ليست في تقييم الفعل، بقدر ما هي وجود دور وحضور للملبسين، أو عدمهما.
في أبها مثلا، يحضر إلى ذهني، تعالق تاريخي بين: آراء معارضي الشكل الموسيقي التفعيلي، في الشعر العربي كله، وآراء معارضيه في نتاج شعراء عسير، ذلك أن منطقة عسير، ومدينة أبها، على وجه الخصوص، كانت المدار المكاني لعدد من الخصومات الأدبية المتعلقة بقصيدة التفعيلة، بل إن أهم كتابين معارضين في مطلع القرن الخامس عشر الهجري كانا ذا علاقة بمنطقة عسير، إذ كان أحدهما صادرا عن نادي أبها الأدبي، وهو كتاب: جناية الشعر الحر، لأحمد فرح عقيلان، الصادر سنة 1403، فيما كان مؤلف كتاب: الحداثة في ميزان الإسلام، الصادر سنة 1408، أحد المنتمين إلى منطقة عسير، وهو الدكتور عوض القرني.
لقد كان لافتعال الصراع بين: أنصار قصيدة التفعيلة، ومعارضيها، أثر سلبي مباشر على حركة النشر الشعري، في منطقة عسير، في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري، وأكثر الأدلة على ذلك وضوحا، هو أن صدور العدد الأول من دورية بيادر الثقافية الأدبية سنة 1406- وكان يحتوي على عدد كبير من قصائد التفعيلة التي لم يألفها الناس حينئذ – قد أحدث ردود فعل عنيفة أدت إلى توقف هذه الدورية عن الصدور ثلاث سنوات، فلم يصدر عددها الثاني إلا سنة 1409.
وعند التأمل، نجد أنه لم تعد لمثل هذه الصراعات أهمية سوى دلالاتها التاريخية، لأن قصيدة التفعيلة باتت أمرا واقعا، حتى إن الخلاف حولها تلاشى بالتدريج، بعد أن صدرت عليها مئات الدواوين، وكُتبت على نهجها آلاف القصائد، واستقر المصطلح الدال عليها، بعد تذبذب بين: الشعر الحر، والشعر المنثور، والشعر المنفلت، إلا أن رفضها في بداياتها الأولى، يمكن أن يكون قد أثر في تجارب الشعراء في هذا الشأن، فتوقف بعضهم عن المضي إلى الأمام في تجربة الكتابة على الشكل التفعيلي، بعد أن كانت له محاولات مبكرة جدا، كما أعرض آخرون عنها إعراضا تاما.
تأملوا تحت تأثير العقول فقط، لتجدوا أن جل صراعاتنا الحالية، تشبه ذلك الصراع الذي أصبح مدار تندر وسخرية، وأننا كلما خرجنا من دوامة دخلنا أختها، وأن محركيها هم هم.
البحث في الأهداف أولى من البحث في جوهر الصراعات، لأنه كاشف.. كاشف.