بلادنا بحاجة إلى خطاب وطني جديد يجمع بين تعميق الشعور بالانتماء الوطني مع المحافظة على هوية البلاد، والانفتاح المنضبط الذي يسير وفق ثقافة المجتمع وقيمه وأخلاقه

في عام 1432 كتبت مقالا هنا بعنوان هل نحن في خطر؟ أشرت في أثنائه إلى أن الأمم إنما تصنع بالجرأة والشجاعة والإقدام، وأن العزة تكون بالحزم والعزم، وأن القيادة والسيادة تكون بقدر ما تشعر الأمم بتحمل التبعات، والشعور بالتحدي وتقديم الاستجابة المناسبة، وخاصة حين تهدد الأمم في وجودها، أو تتكالب عليها الفتن، فتحول -بحكمة وحنكة- المحن والمشكلات إلى عامل قوة ودافعية وريادة.
والمملكة منذ ولادتها في طورها الثالث وهي تتمتع بخصائص وسمات وصفات تنفرد فيها عن غيرها، فمع توفيق الله للملك عبدالعزيز، رحمه الله، في جمع كلمة وأطراف هذه الجزيرة تحت دولة واحدة، إلا أن موقعها الجغرافي، وتاريخها الإسلامي، وتميزها الثقافي والفكري، ومحافظتها على هويتها الإسلامية التي جعلتها دستورها وأصل نظامها في الحكم، وعددها البشري، وعقول قادتها وأبنائها الذين لم تتلوث بالجاهلية والخرافة، وما منّ الله به عليها من الثروات التي تفجرت من باطن الأرض؛ كلها عوامل تجعل من السعودية بلدا مهيأ ليكون في مصاف الدول القيادية في العالم، وهي كذلك الآن وستستمر بعون الله تعالى.
لقد وجدت السعودية نفسها بعد أحداث الثورات العربية تتحمل مسؤولية تاريخية في قيادة الدفة العربية والمساهمة في قضاياها الكبرى، ابتداء من الموقف التاريخي لها في الثورة السورية، مرورا بما أحدثته في البحرين من كسر لذراع إيران التي اقتربت من السيطرة عليها، وإسهامها في نجاة مصر من كارثة وحرب أهلية كانت ستأكل الأخضر واليابس، وتوجت ذلك بالمبادرة التي أذهلت الناس في دخولها وقيادتها لحلف عربي وإسلامي في اليمن التي أبانت فيه عن استقلالها الذاتي وقدرتها على إدارة الحرب بعيدا عن الاستعانة بالدول العسكرية التاريخية العالمية.
كانت مقولة اتفق العرب على ألا يتفقوا عاملا محبطا وشعارا قاتلا للوعي العربي والإسلامي، ولكن موقف الملك سلمان، حفظه الله، من أوضاع اليمن جعل العرب يتفقون على مشروع تقوده المملكة باقتدار، ثم برعت وبرزت حرفتها السياسية والدبلوماسية في النجاح الكبير الذي حققته في مجلس الأمن وتمرير مشروع وضع اليمن تحت البند السابع الذي جعل تصرفاتها قانونية وسالمة من المعارضة، وهذا كله أسهم في دفع السعودية إلى الأمام لتشهد طورا جديدا في تاريخها المعاصر. هذه النجاحات والإبداعات على الصعيد الخارجي، ودحر إيران في اليمن عسكريا وسياسيا ونفسيا الذي أخرجها من طورها هي وعملاءها هو الذي توج المملكة لتكون رائدة التضامن العربي، وهي التي جعلت الأنظار تتوجه إليها في أن تكون عامل إصلاح للبيت العربي والإسلامي، وتشكيل نظام عالمي جديد يغير موازين القوى ولعبة الأمم لتكون السعودية عاملا مهما وصعبا في السياسة العالمية كما هي عامل مهم وصعب في الاقتصاد العالمي.
لقد أسهمت الثورات العربية في تحطيم الشعور العام، وخلق حالة من القلق، وبرزت التوجهات الممنهجة داخليا وخارجيا في إثارة الرأي العام في السعودية، وبرزت تيارات ترتكز في إثارتها للشعور العام في التركيز على البقع السوداء والمعتمة، والتقوي بالأوضاع القريبة في البلدان العربية، وإهمال كل ميزة تتمتع بها هذه البلاد، بل قلبت الإيجابيات إلى سلبيات، وأخرجت الشباب من اعتدالهم الفكري والنفسي إلى حالة من الشطط والهياج السياسي الذي كان يؤذن بمشكلات كبرى، مع تصاعد دعوات العنف والتكفير والتطرف، ولكن عاصفة الحزم كانت وحدها كفيلة بقيادة الملك سلمان، وفقه الله، أن تجمع الكلمة، وترى في القيادة بريق أمل في بعث روح الأمل في القلوب، وطمأنة الناس أنهم في أيد أمينة قادرة بعون الله على رد العاديات عن هذه البلاد، وأننا نمتلك من القدرات العسكرية والسياسية والخبرة الذاتية والاحترافية في إدارة الأزمات ما يمكننا من إصلاح أوضاعنا وأوضاع الآخرين، وهذا كله أسهم في تخفيف حدة الاحتقان، وإطفاء نار الفتنة التي كان ينفخها أهل الشر والفساد الذين يخططون للإضرار بهذه البلاد المباركة.
إن هذا الطور الجديد للسعودية لا بد أن يتوافق مع حل الاحتياجات الداخلية للمواطنين، وإن كان الجميع يلمس التحسن في الأداء وخاصة من الوزراء، والحماسة من كل المسؤولين في اعتبار المواطن هو الهم الأول لهم، إلا أن هناك ملفات كثيرة تحتاج إلى سرعة في إنجازها، ابتداء من ملف الإسكان الذي يعتبر ضروريا لحياة كل مواطن في السعودية، إلى ملف البطالة والعمل الذي شهد تطورا جيدا إلا أنه لا يزال بحاجة إلى الانتقال من الأرقام التي يشكك فيها البعض إلى تحوله واقعا ملموسا ومنعكسا مباشرة على الشباب والشابات، وكذلك ضرورة اكتمال أعمال البنية التحتية التي أنفقت فيها الدولة ثروات طائلة، وخاصة ما يتعلق بالمياه والصرف الصحي وتصريف السيول، وضرورة الإسراع في تفعيل القرارات الملكية التي تمس تحسين معيشة المواطنين في أرجاء هذا البلد الكريم، وهذا كله سوف يسهم في تقوية اللحمة الداخلية ونزع أسباب الشقاق وخاصة في زمن الحروب والمشكلات.
كما أن البلاد -وحتى يكتمل قمر طورها الجديد- بحاجة إلى حركة ثقافية وفكرية وعلمية كبرى تتوافق مع حركة الابتعاث وتوسع الجامعات في أرجاء الوطن، وخطاب وطني جديد يجمع بين تعميق الشعور والانتماء الوطني مع المحافظة على هوية البلد، والانفتاح المنضبط الذي يسير وفق ثقافة المجتمع وقيمه وأخلاقه، وتقديم خطاب ديني يرسخ مبادئ الحق والحقيقة والوسطية والاعتدال، ويقدم تعاليم الإسلام نقية كالمحجة البيضاء التي ترك النبي عليه الصلاة والسلام أمته عليها. هنا سيردد الجميع بثقة وصدق ورسوخ ارفع رأسك إنت سعودي؟.