مع الخوف الفطري التلقائي من أهل ـ الصنعة ـ المتمرسين في السوق؛ اضطرت هذه المطبوعة إلى توليد كوادرها من المجهول، ومن خارج الأسماء الذائعة في حقلي الصحافة والكتابة الصحفية
عشر سنوات مكتملة منذ دورة المطبعة في اليوم الأول ومثل كل تجاربي الشخصية مع محطاتي المختلفة في هذه الحياة لا يمكن أن تكون العلامة النهائية عشرة على عشرة. تجربتي كانت مزيجاً متبايناً من الفرح حد ثمالة الشعرة العليا من الجمجمة، مثلما كانت ـ أيضاً ـ أياما عبرت بكل ما حبلت به من اليأس والانكسار وكنت فيها أتحسس حجم جمجمتي واثقاً حد الإيمان أنها في طريقها إلى أن تتهشم. ومع هذا لست من الفصيلة التي تبالي كثيراً بسلامة الجمجمة، وإن لم تعش هذه الكرة العظمية لتعبر عن ما نؤمن به فمن المؤكد أنها ستعيش مجرد حمولة زائدة على عظام لا تحتمل في الأصل وزناً زائداً عن المعدل الأدنى لرحلة زمن.
ذات صباح بارد من شتاء عام 2000 هاتفني الصديق الأغلى، الدكتور سعد مارق، نائب رئيس التحرير الأسبق عضو مجلس الشورى الحالي، لمقابلة رئيس التحرير الأول. كنت أبحث لحياتي عن حتى مجرد ضوء بسيط، فإذا الضوء المفاجئ يتحول مع الوقت المتسارع إلى ما يشبه السير تحت قنبلة ضوئية تحتاج معها أحياناً أن تغلق العين وأن تضع رأسك على الآذان كأنما تحاول احتضان الجمجمة. ويومها كنا على طاولة الاجتماع اليومي سبعة أشخاص وكان قينان الغامدي يوزع علينا الأدوار لنلهو بتصوراتنا عن شكل الصحيفة وأقسامها وطريقة إخراجها وكنت من السذاجة أظن يومها أن هذا التصور الفردي العبثي هو شكل الصحيفة قبل أن أكتشف في اليوم الأول لصدورها أنني كنت الوحيد على الطاولة الذي يلهو بهذه التصورات وإلا فكل الآخرين يعرفون بالضبط كامل التفاصيل، ومطلعون على إضبارة الدراسة المسبقة التي رسمت أمامهم معالم الطريق، وكانوا جزءاً من تفاصيلها، ولم يفاجأ أحد مثلما فوجئت بشكل الصحيفة في اليوم الأول لدوران المطبعة. وبقدر ما كانت لي هذه الوطن نقطة تحول جوهرية في قصة حياة شخصية مليئة بالإحباط والانكسار بقدر ما كان خروجي منها ـ موظفاً ـ مكتفياً بالكتابة ليلة وداع رئيس تحريرها الأول، وإلا لكنت أنتظر أكثر من ـ وداع ـ بنصف درزن حتى اللحظة. سنختلف أكثر ونتفق كثيراً حول الحراك الثقافي الذي أحدثته هذه المطبوعة. وحتى في منتصف الشهر الثالث لصدورها كان البعض، وخصوصاً من دائرة المنافسة من حقل الإعلام يبشرون ـ أنها انتهت ـ ومن ثم وحتى اللحظة مازالت هذه الأسطوانة تدور ومازالت قصة ـ البدء ـ مثل أحلام الانتهاء هي الحديث المسيطر كلما التقى أباطرة الصحافة السعودية، أو جيوش الكتاب في كل المناسبات المختلفة. مازالت هذه المطبوعة هيكلاً للحديث في كل النقاشات الجمعية المختلفة. هي ثلاثة أشياء لا بد من النقاش حولها في نهاية العقد الأول:
أولاً: قد نختلف حول الجدل من أن هذه الوطن رفعت من مستوى حرية التعبير أو نتفق. هناك أسباب أخرى مختلفة ساهمت في رفع مستوى هذا السقف، وعلى رأسها طبيعة المرحلة التي ولدت في العقد الجاري بأحداث داخلية وعولمية مختلفة. وكل الفارق أن هذه المطبوعة قد ولدت قبيل هذه الأحداث، وأحدثت الفارق النوعي، وعلى الأقل فقد سبقت هذه المطبوعة كل هذه الأحداث بفترة كافية قبيل قليل من طبيعة المرحلة.
ثانياً: إن هذه الوطن كانت خارطة وطنية للجميع، ولربما ساهم مكان صدورها الذي يفتقد لعمق إعلامي مسبق إلى أن تكون هذه الوطن فريدة للخروج من بؤرة الإرث المكاني، إذ لا توجد منطقة سعودية واحدة إلا كان فيها تمثيل متكافئ في الكتّاب والكوادر الصحفية، التي أتت من كل صوب لتجتمع في مطبخها الصحفي.
ثالثاً: وهو الأهم، إن أبرز حروب المنافسة مع الفاعلين في السوق، انقلبت لأن تكون السلاح الأبيض الجديد الذي كسبت به هذه الوطن. ومع الخوف الفطري التلقائي من أهل ـ الصنعة ـ المتمرسين في السوق؛ اضطرت هذه المطبوعة إلى توليد كوادرها من المجهول، ومن خارج الأسماء الذائعة في حقلي الصحافة والكتابة الصحفية.
تجارب الزميلين العزيزين سعد مارق وعثمان الصيني وهما يأتيان للصحافة من باب الجامعة دون تراكم خبرة سابقة هي خير دليل. عشرات الكتّاب الذين طبعت أسماؤهم للمرة الأولى حين رفض المخضرمون تجربة وليد جديد. عشرات الكوادر الصحفية المهنية الذين اهتبلوا فرصة واعدة للمرة الأولى في هذا الحقل لأن البيوت الصحفية المعروفة، إما ضنّت بأهلها وفتحت لهم بواعث إغراء في وجه المنافس الجديد، وإما أنها أحجمت عن تجربة التغيير، ولم تعط فرصاً حقيقية مثلما أعطت هذه الوطن، وصبرت على هؤلاء القادمين الجدد للمهنة.
وباختصار فإن برهان الوطن على قصة العمل المهني في الصحافة لا يثبت إلا ما كان خارج السائد المألوف: إن البعض أسرى لأوهام الخبرة والتجربة، وإن الخبرة أحياناً تنقلب على صاحبها تكراراً مملاً لتجربة روتين يومي، يتحول به هذا اليوم المطبوع إلى استنساخ كل ما يليه منه. أكثر من هذا فإن مقاومة التغيير تحت ذريعة تراكم الخبرة والتجربة هو ما ولّد ذلك الانفصام ما بين الجيل الجديد وبين صناعة الإعلام. الصحافة قبل الوطن تحدِّث وتحادث جيلها الذي ولدت فيه، بينما نحن أمام هموم جيل جديد مختلف، قد لا يجد قضاياه الجوهرية في المعتاد من استنساخ ذات الخبرة والتجربة.
وباستثناء كاتبين فخذ للمفارقة أن كاتباً واحداً من شهر الوطن الأول لم يعد له من اسم أو رسم عليها بعد عشر سنين ومع هذا مازالت هذه الوطن تلد الجدد حتى اللحظة. هنا يبرز السؤال: لماذا تقرؤون الوطن؟