استراتيجية التقرب غير المباشر العسكرية تعتمد على المناورة ومحاصرة جيش الخصم، أو تهديد مناطقه الاستراتيجية بالسيطرة. والحرب السعودية اليمنية 1934، خير مثال على تطبيق هذه الاستراتيجية التي خطط لها الملك المؤسس بكل شجاعة وعبقرية
في عام 1934، نشبت حرب بين المملكتين، المملكة العربية السعودية، ومملكة اليمن المتوكلية، بسبب تدخلات حكومة اليمن المتكررة على الحدود الجنوبية للمملكة، والتورط في تحريض بعض القبائل التي تقع على جانبي الحدود بين الدولتين، للتمرد على الدولة السعودية، وشن الغارات على بعضها.
المشاكل الحدودية بين المملكة المتوكلية والمملكة العربية السعودية، بدأت من عام 1924، إذ حاول إمام اليمن آنذاك، يحيى حميد الدين، التوسع شمالا، على حساب المناطق والحدود الجنوبية للدولة السعودية.
بعد عشر سنوات من الوساطات والحركة الديبلوماسية الحثيثة بين السعودية والمملكة المتوكلية التي تمت مباشرة بين الطرفين، أو تلك التي سعى فيها بعض الأشقاء العرب، لتجنب نشوب حرب بين الدولتين العربيتين الجارتين، إلا أن التعنت اليمني واعتداءاته العسكرية المتكررة وصلت إلى حد لم يعد مقبولا بالنسبة للحكومة السعودية. إذ كما كان يبدو حينها أن حكومة الإمام يحيى، فسرت صبر الدولة السعودية بأنه ضعف منها، وليس حكمة وكرها لخوض نزاعات مسلحة مع الأشقاء العرب، وهنا قرر القائد المؤسس، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، رحمه الله وطيب ثراه، في عام 1934، أن يضع حدا لغطرسة الحكومة المتوكلية ولجم اعتداءاتها العسكرية والتآمرية الدائمة على حدود ومناطق المملكة الجنوبية عن طريق الحرب، إذ فشلت محاولات عشر سنوات من الديبلوماسية والوساطات العربية المخلصة عن فعل ذلك.
وعليه حدد الملك المؤسس أهداف غايته من الحرب هذه، وأطمأن لتوافر إمكانات خوض مثل هذه الحرب لديه، ودرس الوضع جيدا في مسرح عمليات الحرب القادمة، إذ حدد إيجابيات جيش خصمه في المعركة وسلبياته، كما حدد إيجابيات جيشه وسلبياته، ورسم خطته العسكرية التي بعد الله تكفل لجيشه النصر. بحيث يقوم بتحييد إيجابيات جيش الخصم، حتى لا يستخدمها ضد جيشه، كما حدد سلبيات الخصم، من أجل استغلالها ضده. وفوق كل هذا، الحرب خدعة وحيلة ومفاجئات.
جهز الملك عبدالعزيز جيشا كبيرا ووزعه على جبهتين: جبهة تتحرك لمنطقة الصراع بين المملكة واليمن، وهي منطقة صعدة الجبلية، وجبهة أخرى أصغر منها ترابط على مقربة من ساحل البحر الأحمر أو تهامة، وجعل وحدات في الخلف تعمل كاحتياط لتزويد كلا الجبهتين إن احتاجت لذلك.
تحرك القسم الأكبر من جيش السعودية ناحية صعدة وبقيادة ولي العهد حينها الأمير سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله. والأخرى رابطت على الساحل بقيادة الأمير اليافع فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله.
الجيش المتوكلي تحرك بسرعة ناحية جبهة صعدة، إذ أيقن أن زخم الهجوم السعودي سيكون من هذه الجبهة، خاصة أنه الأكبر وهو بقيادة ولي العهد.
أخد الإمام يحيى حميد الدين يجمع جميع حلفائه من القبائل اليمنية ويحشرهم مع جيشه في جبهة صعدة. عندها أخذ الجيش السعودي على جبهة صعدة بالتقرب من الجيش المتوكلي وكأن الهجوم قد بدأ، تسمر الجيش اليمني أمامه لصده. وفي هذه اللحظة، حرك الملك عبدالعزيز جيشه على الساحل، وبسرعة فائقة دخل منطقة الساحل اليمني ووصل إلى الحديدة ودخلها، دون مقاومة تذكر. وأخذت قطاعات الاحتياط الخلفية تتحرك لتسند الجيش السعودي في الحديدة وتؤمن طرق إمداداته. هذه الحركة السريعة وغير المتوقعة فاجأت قادة المملكة المتوكلية وأصابتهم بالشلل. إذ أصبح هنالك محوران من الممكن أن يتحركا سوية -كفكي كماشة- للسيطرة على صنعاء. وعلى هذا الأساس تم شل إرادة القتال عند ساسة وعسكريي اليمن، ووافقوا على إيقاف الحرب والرجوع إلى طاولة المفاوضات.
وتم عقد مؤتمر الطائف في نفس العام وتم فيه التوافق على رسم الحدود المبدئية بين السعودية واليمن. وهنا تحقق نصر عظيم للمملكة بأقل الخسائر الممكنة، ولم تخلق عداوات دائمة بين المملكتين، إذ تم عقد معاهدات تعاون وصداقة بينهما.
ولقد ذكرت في مقالي السابق كيف تدار الحروب؟ بأن الحرب هي تكملة لما فشلت الديبلوماسية في تحقيقه، وذلك بفرض الإرادة بالطريقة العسكرية. وهذا ما طبقه بالتحديد وبنجاح وروية الملك عبدالعزيز.
كما أوضحت في مقالي السابق، أن هنالك استراتيجية التقرب غير المباشر العسكرية Indirect Approach وهذه بشهادة معظم قادة الحرب العالمية الثانية والمنظرون العسكريون، أفضل الخطط العسكرية التي من الممكن أن تشن بها الحروب. إذ إنها لا تعتمد على المجابهة المباشرة، أي الصدام الجبهوي بين الجيشين، وإنما تعتمد على المناورة والإحاطات الجانبية، ومحاصر أو تهديد جيش الخصم من الأجناب أو الخلف أو تهديد مناطقه الاستراتيجية بالاحتلال والسيطرة من أجل شل قدرة القتال لديه. والحرب السعودية اليمنية في 1934، خير مثال على تطبيق مثل هذه الاستراتيجية العبقرية التي خطط لها وأشرف على تنفيذها بكل شجاعة ودراية وعبقرية الملك عبدالعزيز، رحمة الله.
إن خوض الملك عبدالعزيز لعشرات المعارك والحروب منذ صغره، وإحرازه الانتصار العسكري بعد الآخر، إضافة إلى تاريخ آبائه وأجداده -آل سعود- العسكري، مع الميزات والقدرات الشخصية التي كان يتمتع بها، جعلت منه أحد أساطير إدارة الحروب.
قال الملك عبدالعزيز، رحمة الله، عن نفسه فيما معناه: أنا لست أشجع الناس، ولكن أثناء الحرب يريني الله أشياء لا يراها غيري، فأستغلها لصالحي، وتكون بعد الله سبب نصري.
وهذا ما يسمى بالمصطلح العسكري، العبقرية العسكرية التي تميز بها قلة من القادة العسكريين في التاريخ العسكري العالمي.
الملك عبدالعزيز يعي جيدا ما يريد سياسيا من أي معركة أو حرب يخوضها، وعليه يرسم خططه العسكرية على مقاس هدفه السياسي الذي يطلبه من الحرب، ويحرص جاهدا على ألا تخلق له عداوات دائمة؛ وعليه كان يعد من يقابلونه في الحرب خصوما سياسيين، لا أعداء حتميين ودائمين، ويحرص أكثر على أن يكسب خصومه بعد أن يهزمهم، فبالنسبة له، صديق فوق التراب خير من عدو تحت التراب. وعلى هذا الأساس، بعد أي حرب ينتصر فيها الملك عبدالعزيز، يكسب فيها أصدقاء وحلفاء أكثر من الأعداء، وهذا ما جعل عددا ممن خاضوا الحروب ضده وانتصر عليهم، جزءا من قادته الذين اعتمد بعد الله عليهم. هكذا علمنا الملك عبدالعزيز كيف تدار الحروب.