أليس من الحسرات أن يكون اليمن على هذه الحال من الفقر والحاجة والتأخر في اللحاق بركب الحضارة المعاصرة؟ لكن سيحاسب التاريخ رجلا اعتلى صهوة الحكم فيها 33 سنة كانت كفيلة بتأخر الدولة ألف عام
اليمن خاصرة الجزيرة وصنعاء ريحانة العرب، بها التاريخ والقدم، والجذر الأصل للعرب الخلص. لِمَ نتناسَ صنعاء، وهي ذلك الديدن العربي! وذلك العبق، وذاك الدم العربي المتدفق في عروقنا وذلك الإرث الحضاري للعرب دون غيرهم؟ نحن من أغفل تاريخنا فطمع فيه الطامعون، وجالت حوله السائمة، اعتقادا أنها في منأى عن أعين أبنائه العرب. فعندما عملت على كتاب (عبقرية الإنسان في الجزيرة العربية) وفيما يقرب من ثلاثمائة كتاب من أمهات الكتب وجدت ما لا يعرفه العالم وما لا يخطر على بال بشر من ذلك التاريخ وذلك الأثر وتلك الحضارة التي يتباهي غيرنا أنه الأقدم وأنه الأعرق وما إلى ذلك.
فالاستنتاج البحثي الأكاديمي أن آدم عليه السلام كان هنا في جزيرة العرب ونسله من بعده؛ ثم إن قصر سليمان عليه السلام كان مشيدا في جنوب شرق الجزيرة العربية كما ذكر الهمذاني في كتابه (ضفاف الجزيرة) أن: الدهناء ومنهم حضور طسم وجديث وفيها آثارهم وحصونهم وبتلهم الواحد بتيل وهو هَنّ مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين، قال أبو مالك لحقت منها بناء طوله مئتا ذراع في السماء وقيل خمسمائة ذراع، من أحدهما نظرت زرقاء اليمامة إلى نُزُل من جوجان أو جوحان من رأس الدم مسيرة يومين وليلتين، وكانت جديس تسكن الخضرمة وكانت طسم تسكن الخضراء، وقرية بني سدوس بن ذهل بن ثعلبة وهي قرية جيدة وفيها قصر سليمان بن داوود عليه السلام مبني بصخر منحوت عجيب خراب وبقيت القصبة. وعن أقدم المدن على الأرض يحددها الهمذاني أنها صنعاء فيقول: وصنعاء أقدم مدن الأرض لأن سام بن نوح الذي أسسها. ويقول الكلبي في كتاب الحموي معجم البلدان: كان اسم صنعاء في القديم أزال فلما رأوا مدينتها وجدوها مبنية بالحجارة حصينة فقالوا هذه صنعة ومعناه حصينة فسميت صنعاء بذلك، وقيل سميت بصنعاء بن أزال بن قطان بن عابر بن شالخ وهو الذي بناها وهي في الإقليم الأول، قيل كانت تسمى أزال.. وقال مجاهد: في قوله تعالى (غدوها شهر ورواحها شهر) كان سليمان عليه السلام يستعمل الشياطين بإصطخر ويعرضهم بالري ويعطيهم أجورهم بصنعاء فشكوا أمرهم إلى إبليس فقال عظم البلاء وقد حضر الفرج، وقال عمارة بن أبي الحسن ليس بجميع اليمن أكبر ولا أكثر مرافق وأهلا من صنعاء، وهي من الاعتدال في الهواء بحيث لا يتحول الإنسان من مكان طول عمره صيفا ولا شتاء وتتقارب بها ساعات الشتاء والصيف وبها بناء عظيم قد خرب، وهو تل عظيم عال وقد عرف بغمدان، وقال معمر وطئت أرضين كثيرة شاما وخراسان وعراقا فما رأيت مدينة أطيب من صنعاء، وقال محمد بن أحمد الهمذاني الفقيه: صنعاء طيبة الهواء كثيرة الماء يقال إن أهلها يشتون مرتين ويصيفون مرتين وكذلك أهل فران ومأرب وعدن والشحر.
وقال أبو محمد اليزيدي يمدح صنعاء ويفضلها على غيرها وكان قد دخلها:
قلت ونفسي جم تأوهها تصبو إلى أهلها وأندهها
سقيا لصنعاء لا أرى بلدا أوطنه الموطنون يشبهها
وقد بنى أبرهة بصنعاء (القليس) وأخذ الناس بالحج إليه وبناه بناء عجيبا، وقدم يزيد بن عمرو بن الصعق صنعاء ورأى أهلها وما فيها من العجائب فلما انصرف قيل له كيف رأيت صنعاء؟ فقال:
ومن يرى صنعاء الجنود وأهلها وجنود حمير قاطنين وحميرا
يعلم بأن العيش قسم بينهـم حلبوا الصفاء فأنهلوا ما كدرا
وقال أبو عبيد وكان زياد بن منقذ العدوي نزل صنعاء فاستوبأها وكان منزله بنجد في وادي أشي فقال يتشوق لبلاده:
لا حبذا أنت من صنعاء من بلد ولا شعوب هوى مني ولا نقم
وحبذا حين تمسي الريح باردة وادي أشي وفتيان به هضم
مخدمون كرام في مجالسهم وفي الرحال إذا صحبتهم خدم
الواسعون أذا ما جر غيرهم على العشيرة والكافون ما جرموا
ليست عليهم إذا يغدون أردية إلا جياد قسي النبع واللجم
وعن صنعاء يقول الهمذاني: على نحو ما ذكره بطليموس في طبائع أهل هذا الصقع، وهم مع ذلك أهل تمييز لعارض الأمور وخدمة السلطان بأهبة وتملك، وتنعم في المنازل، ولهم صنائع في الأطعمة التي لا يلحق بها أطعمة بلد.. ولهم شروط دون غيرهم ولا يكون لفقيه من أهل الأمصار شرط إلا ولهم أبلغ منه وأعذب لفظا وأوقع معنى وأقرب اختصارا، ومنهم الخطباء كمطرف بن مازن وإبراهيم بن محمد بن يعفر، وفيه العلماء كوهب بن منبه وأخويه همام ومعقل وعبدالرازق وعبدالرحمن بن داود والمخترع لمفارق الغيول مطرف بن مازن وغيرهم.
حتى المسرح كان بها المسرح الإليزابيثي وكانت تقدم عليه العروض الشكسبيرية في القرن السابع عشر إبان الاستعمار!
أليس من الحسرات أن يكون اليمن على هذا الحال من الفقر والحاجة والتأخر في اللحاق بركب الحضارة المعاصرة؟ سؤال قد يستنكره البعض، إنما سيحاسب التاريخ رجلا اعتلى صهوة الحكم فيها 33 سنة كانت كفيلة بتأخر دولة ألف عام، كما فعل هذا الحاكم الذي جلب الخراب والدمار والجهل والتطرف والإرهاب والعوز، لشعب ودولة لا تستأهل إلا أن تكون في مقدمة الأمم، ففيها كل مقومات الحضارة القديمة والحديثة سواء من طبيعة أو موقع أو موارد. ولكن لا تسأل عن دولة اعتلى السلطة فيها فاشل ومراوغ وناكر لكل القيم العربية.