الأسرة هي الحاضنة التربوية الأولى، غير أن المدرسة كمؤسسة تربوية تعد الثانية من حيث الأهمية، لأن الطفل يلتحق بها في عمر مبكر ويقضي فيها معظم وقته، منذ الصباح الباكر حتى بعد منتصف اليوم، مكتسباً من خلالها قيماً تربوية ومهارات جديدة، حيث يتعلم الطفل من خلالها الانطلاق من الذات إلى المشاركة الجماعية، وهذا يضاعف من مسؤولية المدرسة - وربما خطرها أحيانا- في المراحل المبكرة بدورها ومسؤوليتها التربوية في مكافحة قيم التطرف والإرهاب والخوف والعنف الاجتماعي، وتعد المرحلة الابتدائية وما قبلها هي الأهم في تشكيل الوعي الفكري والإنساني، الذي يترسخ في هذه المرحلة أكثر من أي مرحلة عمرية أخرى.
ولكن يبدو أن كبح نمو بذرة هذا الوعي يبدأ من المدرسة أيضا، سواء مما يوجد في المنهج الدراسي غير المناسب للأطفال في السن المبكرة، أو بشكل غير ممنهج رسميا من خلال المنهج الخفي!
إذ يبث بعض المعلمين والمعلمات أفكارا تكرس العنف والرعب في أذهان الأطفال، وهي أفكار شائعة اجتماعيا بوضوح، بل يمكن ملاحظتها اليوم لدى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
غير أن تأثير المعلم والمعلمة كبير بالنسبة للطفل لا يقل عن أثر الأم والأب في الأسرة، وربما أحياناً يزيد تأثيرهما السلبي بما لديهما من رمزية وهالة من الاحترام والهيبة لدى الطفل الذي يتلقى عنهما المعرفة المباشرة.
في موقف تربوي شخصي، جاءتني ابنتي الصغيرة - في الصف الثاني الابتدائي- لتخبرني أنها توقفت عن رسم العصافير والفراشات والبشر، وأنها لن ترسم سوى الجمادات! لأن معلمتها أخبرتها وزميلاتها الطفلات أن الله سيطلب منهن يوم القيامة أن يجعلن لها أرواحا، وإلا سيحرقهن بالنار!
حقيقة كانت هذه المعلومة صادمة لها، إلا أني من خلال الخبرة التربوية التي قضيتها في مؤسسات التعليم لم أستغرب وجود هذا العبث بالمادة الخام والطرية لعقول أطفالنا بما يشوه الذات ويبقى فيها ندوبا لا تندمل بسهولة!
وبعد حوار طويل مع ابنتي حول واقع الرسم في حياتنا ولجوء الإنسان إليه منذ القدم، كي يعبّر عن ذاته وعن الكون من حوله، توصلنا إلى نتيجة مفادها أن الرسومات الطبيعية للحيوانات والطيور والبشر موجودة في الكتب المدرسية وغيرها لكي نتعلم من خلالها، فنحن لم نكن نعرف الفيل غير الموجود في جغرافية بلادنا لو لم نره في رسم أو صورة ثابتة أو متحركة، وأن كل ما في هذا الكون الجميل الذي أبدع الله خلقه يمكننا أن نلاحظ من خلال طرق عدة منها المشاهدة والتأمل والرسم.
أسوق هذه القصة التي حدثت مؤخرا، متذكرا تلميذي الصغير يوسف الذي كان في الصف الأول الابتدائي حين سألته وزملاءه-قبل عشر سنوات- عن أحلامهم وطموحاتهم في المستقبل، فقال الكثير منهم إنه يريد أن يصبح شرطيا، وبعضهم طبيبا ومهندسا، إلا أن يوسف صدمني حين قال: إنه يريد أن يكون إرهابيا!
بل أشعرني حينها بثقل مسؤولية التربية التي تسبق التعليم وتتقدم عليه، فطلبت من التلاميذ ترك أي شيء في أيديهم، وبدأنا حوارا حول موضوع الإرهاب الذي أثاره ذلك الطفل، وأبدى الأطفال استعدادا رائعا للحوار حول هذا الموضوع الشائك، وسألت ذلك الطفل البريء: لماذا تريد أن تكون إرهابيا؟ فقال بعد تلكؤ: لكي أهرب من الشرطة!
لم يكن ذلك الطفل وزملاؤه يدركون دلالة الإرهاب لكن من خلال ذلك الحوار الممتع كان لدى معظمهم تصور مفاده أن الإرهاب شيء سلبي-وهذا أمر مهم- فربطوا بينه والسرقة، وخلطوا ما بين الإرهابيين واللصوص، لكن بعضهم-كذلك الطفل- وصف الإرهابي بالقوي الذي يمكنه فعل أشياء خارقة كتفجير المباني والهرب من الشرطة!
ويبدو أن هذا التصور نتيجة ما مرّ في أذهانهم من عبارات التمجيد والإطراء على الإرهابيين التي ربما سمعها ذلك الطفل من أحد ما، فمجتمعنا ليس نقيا ولا طاهرا من المؤيدين للأعمال الإرهابية - باعتبارها جهادا - سواء التي في الداخل أو في الخارج.
سألت الأطفال عن دور رجل الأمن الشرطي في حياتنا اليومية، وبعد مداولات أجمعوا على أنه يحمينا ويفعل أشياء كثيرة من أجلنا، وحاولتُ جاهدا تقريب الصورة أكثر إلى أذهانهم، فذكرت لهم قصة الطفلة وجدان التي قضت في الاعتداءات الإرهابية على إدارة مرور الرياض-قبل أكثر من عقد من الآن- حين كانت تطعم عصافيرها في منزل أسرتها المحاذي لموقع التفجير.
لم يكن حينها في المدرسة أي وسائل تعليمية مناسبة لأعمار التلاميذ تخص الإرهاب، كانت كل نشرات وملصقات مكافحة الإرهاب الموجودة مكتوبة بـلغة الكبار! ساعدني أحد الأطفال حين ذكّر زملاءه بإحدى حلقات المسلسل الرمضاني السعودي الشهير طاش ما طاش حين قام الإرهابيون الممثلون بتفجير السيارة الزرقاء، وقلت في نفسي حينها: ألف تحية لـطاش الذي فعل ما لم تستطع الوزارة فعله!
وأبدى الأطفال إنسانية وتعاطفا مع قصة الطفلة وجدان التي قتلها الإرهابيون، حتى إن أحدهم كاد أن يبكي وهو يتساءل: لماذا قتلوها؟ كنت متأكدا أن البحث عن إجابة وافية تقنع هذا الصغير أصعب من أي شيء آخر. فكرت قليلا ثم قلت: إنهم اعتقدوا أنهم يفعلون الشيء الصحيح بينما هم مخطئون. أعترف بأني لم أُشبع فضوله بإجابة وافية حينها، لكنه طلب مني أن يقوم برسم شيء ما على السبّورة، فرسم جسمين أحدهما كبير والآخر صغير، وقال: هذا إرهابي، وهذا شرطي هو أكبر وأقوى من الإرهابي!
بالتأكيد أن يوسف كبر الآن وأصبح في طور المراهقة، مثل بقية زملائه في الصف، وستكبر ابنتي لين يوما أيضا، وما زلنا ننتظر أن تفعل وزارة التعليم شيئا ما ليكون أطفالنا أعضاء إيجابيين وفاعلين في وطنهم وسط مجتمع مسالم وآمن!