العالمون ببواطن البحوث العلمية يؤكدون على أن أغلب باحثينا لديهم تسرع في اختيار الموضوعات البحثية، ويختارون ما يسهل بحثه، ويفضلون النبش في الماضي، ويتهربون من القضايا التنموية التي لها صلة بالواقع
أرسل لي صديق مخلص طالبا مني قراءة مؤلف صدر حديثا، اقتناه من معرض الرياض الدولي للكتاب مؤخرا، وهو عبارة عن رسالة علمية نال بها صاحبها درجة الدكتوراه من جامعة عريقة.. الرسالة العلمية ـ كما وصفها صاحبها ـ تضمنت دراسة تحليلية نقدية، مع رصد معاصر، يخدم به مصلحة دراسته.. هنا لن أهتم كثيرا بتفاصيل ما قرأت، خاصة أن لجنة موقرة منحت الدارسَ الدرجة العلمية، غير أني لا أدري كيف منحته اللجنة الدرجة دون أن تكلف نفسها البحث عن صدق ما تضمنته، وخصوصا الأمور المعاصرة التي ذكرها، وأوهم اللجنة بصحتها.
الذي يعنيني هنا ليست رسالة معينة، وإنما الرسائل العلمية بعمومها؛ فهناك انتقادات كثيرة يمكن أن توجه لرسائل الماجستير والدكتوراه التي تناقش داخل الجامعات.. يتصدر الانتقادات كون بعض ـ أو أغلب ـ الرسائل العلمية معادة، ومكررة، ومنقولة من رسائل قديمة، أو من سماع بلا تحقق، أو من (الشيخ جوجل) ـ شيخ من لا شيخ له ـ ، ولا جهد فيها للباحث سوى إضاعة وقته في القص واللصق.. مصيبة أخرى أن أغلب هذه الرسائل التي تناقش وخصوصا في الكليات الشرعية منفصلة عن الواقع ـ تحقيق في مخطوط، ومقارنة بين وبين ـ ، وبعضها يهدد (السلم المجتمعي)، وهناك رسائل عن مواضيع قتلت بحثا، وكلها رسائل لا تنم إلا عن عقليات لا يتوقع منها أن تساهم يوما ما بحلول للمشكلات المتفاقمة للأمة.. لا شك أن هذه النوعيات من الرسائل التي لا ترقى لتسميتها برسائل علمية يفترض أن يحاسب ويحاكم عليها أصحابها لعدم أمانتهم العلمية، ومن بيده الموافقة على المواضيع لا بد أن يُخضعوا إلى تطوير في أفكارهم، وإعدادهم الإعداد الجيد، وبدون ذلك ستستمر رداءة الرسائل العلمية كما هو مشاهد.
لا أريد التجني، ولكن لو تيسر لمن يهتم إجراء مقارنة بسيطة بين بحث علمي أجراه مستشرق، وبحث مثله أجراه باحث محلي ـ بل وعربي ـ سيجد فرقا شاسعا بين البحثين، فالباحث العربي في الغالب غير ملم بقواعد البحث العلمي، حتي في مجال تخصصه، وغير قادر على أن يخرج بحثا علميا مستوفيا لقواعد البحث، كما أن الباحث لدينا لا يقوم بمسح شامل وصادق لموضوع رسالته.. العالمون ببواطن البحوث العلمية يؤكدون على أن (أغلب) باحثينا لديهم تسرع في اختيار الموضوعات البحثية، ويختارون ما يسهل بحثه، ويفضلون النبش في الماضي، ويتهربون من القضايا التنموية التي لها صلة بالواقع، وتعاني منها المجتمعات، ولديهم ضعف واضح في استيعاب المناهج العلمية للبحث، ومتعودون على الحشو والنقل، وكل جهدهم ينصب على الانتهاء من إنجاز الرسالة سريعا، وبأقل جهد ممكن، ويفتقدون للموضوعية، ومنحازون لميولهم واتجاهاتهم الفئوية الخاصة، ومتأثرون بأيديولوجيات خاصة، وما رسائلهم إلا أداة للترويج لهم ولجماعاتهم، وليست من أجل تحليل الواقع الفعلي، من أجل تطويره، والمساهمة في حل مشكلاته.
خاتمة:
الرسائل العلمية لا بد أن تأخذ المنحى الأكاديمي في البحث، ولا بد أن ترتبط بالواقع، وتخدم المجتمع، فقيمة الرسائل في تقديمها الحلول العلمية للمشكلات، وبسط الحلول للناس؛ فالمجتمع لن تنفعه مطلقا رسائل علمية من مثل رسالة (أحكام الأصوات الصادرة من الإنسان عدا الكلام)، التي ضمَّن فيها الباحث بحثا مطولا عن (الضراط) ـ أعزكم الله ـ وتحصل بسببها على درجة الماجستير، قبل سنوات.