لو أن هنالك استفتاء وطنيا شاملا على السؤال: ما هو أعلى وأغلى مشاريعنا الوطنية في مجال الإنسان لما اختلف إجماع ثلاثة على أن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي هو الذروة. بناء الإنسان والعقل أهم لدينا من رسم الكباري وافتتاح الأنفاق ورصف الشوارع، وأهم لدينا من ميزانية ردم الحفر والمستنقعات التي تستنزف من ميزانيتنا العامة ربع مليار ريال في العام الواحد. ولن يجادلني في أولوية الابتعاث إلا المتطرفون المتشددون من كل منظر خفي لداعش والنصرة ومن كل متعاطف بالسالب مع الإخوان والقاعدة. هؤلاء لا يريدون لأجيالنا وشبابنا إلا أن يكونوا مزرعة دواجن كبرى للبيض المسلوق أو للفراخ اللاحم.
أكتب مقالي هذا لأن الإشاعة عن وقف برنامج الابتعاث لدرجة البكالوريوس بدأت تكبر. أصبحت تنتشر ونحن في بلد، ومع التجربة، هو الوحيد الذي تتحول فيه الإشاعة إلى واقع وحقيقة.
تسري هذه الإشاعة تماما عكس أسئلة حاجة التنمية. يقول سؤال التنمية الجوهري في أولوية الخيارات: هل تحتاج مسيرة التنمية في شتى مجالاتها وجوانبها إلى حملة الشهادات العليا أم إلى عمال الشهادة الجامعية الأساسية؟ والجواب المؤكد، وبالإحصاء، أن النسبة التسعينية الغالبة من الذين بنوا ثورة أميركا التقنية وبركان اليابان الصناعي هم من حملة الشهادة الجامعية الأساسية. نحن بحاجة ماسة وشديدة إلى عمال تنمية، لا إلى منظري إدارة، ولهذا سيكون من الكارثة الكبرى أن تتجه الأفكار إلى قصر الابتعاث على درجة الماجستير والدكتوراه. هذه شهادات نخبوية لم يعد هذا البلد بحاجة إليها، ومن الممكن الاكتفاء بمبتعثي 30 جامعة رسمية لملء الفراغات التي نحتاجها في وظائف التنظير النخبوية. والخلاصة الجوهرية تكمن في ما ابتدأت به في رأس المقال. أنا أعيش اليوم في منزل يتمدد على شارعين، ولله الحمد. تكلفة أعمدة الكهرباء الأربعة تكفي لابتعاث خلدون الصغير لعام كامل. تكلفة رصف الشارعين وسفلتتهما تكفي لابتعاثه لعام ثان جديد. تكلفة توصيل الماء والصرف الصحي إلى منزلي أكثر من ضعف ابتعاث هذا الخلدون الصغير إلى جامعة أسترالية. ولكم الآن أن تسألوا أبا عن ترتيب الأولويات: هل هي رصف الشارع وتوصيل أعمدة النور وبناء شبكة الصرف الصحي، أم هي بناء عقل خلدون وتهيئته للحياة والأمل والمستقبل؟ بناء العقل وتنمية مكونات الإنسان يسبقان بناء وتنمية المكان بمراحل، ولا مجال للمقاربة والمقارنة. سيارة صاحب المعالي وحدها تكفي في العام الواحد لابتعاث عشرة عقول. انتهت المساحة.