هل الأولى في ظل هبوط أسعار النفط صرف الميزانيات الباهظة على مشروع الابتعاث، أم ترشيد بعض تلك النفقات وصرفها على تحسين البنى التحتية؟

الابتعاث مشروع وطني كبير، ميّز مرحلة الملك عبدالله يرحمه الله، والوطن وتنميته بحاجة ماسة له، ولا يجوز إيقافه بأي حال من الأحوال.
صدّرت مقالتي بهذه المقدمة لأقطع الطريق على أولئك الذين ينبشون بين السطور بأعين سملها التصيّد والهوى، ونفوس امتلأت فجورا في الخصومة والاحتراب الأيديولوجي، ليلطموا في الغد ويتباكون، ويصموننا بأننا ضد النهضة والتقدم، وأشهروا بطاقاتهم الصفراء -المهترئة من كثرة استخدامها- التي حبروها بأننا رجعيون ومتخلفون وقوى ظلام ضد التنوير والتنمية، لمجرد إبداء بعض الرأي في هذا المشروع.
مشروع الابتعاث يحتاج إلى إعادة تقييم من قبل لجنة علمية محايدة، يروا نقاطه الإيجابية ويؤكدوا عليها، ويلفتوا نظر ولاة الأمر إلى بعض السلبيات التي رافقت المشروع، كي نتفاداها ونجد لها البدائل.
يخبرنا بعض المبتعثين للدراسات العليا عن أهوال يرونها من بعض شبابنا وفتياتنا -صغار السن- في تلك الديار، والأماكن المؤسفة التي يغشونها، وليس فقط في المجال الأخلاقي، بل البعض التاث فكريا ودينيا، بل وحتى سياسيا، والسبب أنهم ابتعثوا في مراحل عمرية مبكرة، لم تنضج لتكون مؤهلة على تحمل المسؤولية، ويؤلمك حال بعض فتياتنا هناك، وجابهني أخي الأكبر الدكتور علي الخبتي بسؤاله الاستنكاري: هل أنت أحرص من أهلهن عليهن؟ وأنا أجيبه: المجتمع والوطن، وهو وأنا، أحرص بالتأكيد من ولي أمر رمى بناته هناك دون متابعة، ولو كانت ابنتي أو ابنته هي من غشت تلك الأماكن لما رضينا أبدا، ولاحترقت أكبادنا ألما، ولو كانت ابنتي أو ابنته هي من تحدت وتزوجت الغربي غير المسلم دون إرادة والديها، لما فهنا بتلك الردود، والأدهى أنها لو ذهبت على حساب والدها الخاص، لخفّ الأمر قليلا، رغم أنه مَصاب وحَدث، ولكن ذهبت بأموال الدولة.
هل أنا بسطوري الآنفة أدعو لعدم ابتعاث بناتنا وأخواتنا بما يستفز أولئك النفر الآن؟ قطعا لا، بل ثمة مبتعثون ومبتعثات نقف لهم احتراما وتقديرا، وقد رفعوا رؤوسنا عالية، ونفخر بهم والله، بيد أنني ألفت إلى سلبية كبيرة، وثلمة واسعة رافقت المشروع، وينبغي إعادة تقييم الذين يبتعثون، وأعمار اللاتي ينبغي أن يذهبن ليدرسن هناك على حساب الدولة، ونوعية التخصصات العلمية التي نحتاجها، وهل الأولى صرف تلك الميزانيات، في ظل هبوط أسعار النفط، على مشروع الابتعاث، أم آن أوان ترشيد تلك النفقات، وصرف بعض الميزانية على تحسين البنى التحتية وخاصة الجامعات الناشئة في مدن الأطراف، وخلق بيئة تعليمية متكاملة هناك، تحفز كل أكاديميي المدن الكبيرة بالذهاب لتلك المدن الجامعية التي سنفاخر بها، وتبقى منارات علم وإشعاع تضيء بلادنا من أقصاها إلى أقصاها.
لست معنيا بالهمسات التي تصدر من هنا وهناك بأن مشروع الابتعاث بهذا الشكل الذي ظهر تداخلت فيه بعض الرؤى الأيديولوجية فالبعض لا يعلم أن قدر هذه البلاد التي تحتضن الحرمين الشريفين، والتي قامت على معاهدة خالدة بين إمامين عظيمين، توارثها الأبناء والأحفاد جيلا بعد جيل، هو هذا الدين الذي نحمل أمانته اليوم، ولا فخر ولا عزّ لنا إلا به، وأن البترول سينضب يوما ما، ولن يميزنا -في هذا الورى- سوى أننا مهد هذه الرسالة وحملتها، ومهوى أفئدة المسلمين في كل العالم، وهذا هو خادم الحرمين الشريفين في كلمته بالأسبوع الماضي يؤكد هذا المعنى وسيسير عليه كما فعل أسلافه العظام.
لذلك لست أبدا مع تلك الأصوات القليلة النشاز التي تطالب بإلغاء هذا المشروع، بل أنا أدعو إلى تقييمه وترشيده، والإفادة منه وتطويره، ولنا تجربة رائعة في الثمانينات إبان الملك فهد يرحمه الله، وكيف استطعنا صون أبنائنا فكريا وسلوكيا -عبر برامج وقائية- قبل ذهابهم هناك، في التخصصات التي يحتاجها الوطن.
آن أوان تقييم مشروع الابتعاث، ودراسة آثاره المستقبلية على وطننا، وإعادة صوغ الأهداف المرحلية والنهائية له من جديد.