هناك نقاط جوهرية كثيرة في البنية التشريعية للقضاء تحتاج إلى تحديث، كما أن تنويع الخبرات الاستشارية والقيادية داخله أمر شبه ضروري للرقي بمستوى الجهاز
بعد صدور نظام القضاء في عام 1428 أعلن الملك عبدالله -رحمه الله- تخصيص سبعة مليارات لأجل تطوير القضاء، وأُوكلت آلية التنفيذ ووضع الاستراتيجية إلى وزارة العدل حينها، وتم على إثرها إنشاء مركز خادم الحرمين لتطوير القضاء، على افتراض أنه سيكون هناك هيكلة وربما إعادة تأهيل لهذا القطاع بشكل شامل، على الأساس الذي وضعه نظام القضاء حينها.
المبلغ الضخم الذي تم تخصيصه لم يكن على شكل ميزانية للوزارة مثلا، وإنما كان مخصصا فقط لأجل تحديث وتطوير القضاء، وبمراجعة منتجات تطوير القضاء في الفترة السابقة، نجد أن كل ما خرج به هو بعض الأنظمة الإلكترونية التي هي ليست جاهزة حتى الآن للاعتماد عليها وغير متكاملة، وبالمقارنة مع الوزارات الأخرى فإننا نجد خدمات إلكترونية متقدمة بمراحل عليها، ومع ذلك لم تكن من ضمن برنامج ومركز مخصص للتطوير كما هو المفترض في العدل!
كتبت الكثير من المقالات حول هذا الموضوع - وكتب غيري الكثير-، وتحدثت عن ضرورة الاستعانة برؤية من خارج الوزارة حينها كونها فيما يبدو لم تكن تملك مشروعا حقيقيا للتطوير، وبالسؤال الآن ما هي استراتيجية مركز تطوير القضاء؟ للأسف إنه لم يكن يملك استراتيجية أو خطة واضحة على مستوى الإمكانات المهيأة من ولاة الأمر حفظهم الله، بل لا نجد حتى موقعا رسميا على شبكة الإنترنت يشرح أهدافه واستراتيجيته.
كان من المفترض أن يكون تخصيص القضاء وإنشاء محاكم متخصصة، أو صدور الأنظمة (التنفيذ والمرافعات والإجراءات الجزائية) الأخيرة من أعمال المركز، وفي الحقيقة ليس لها به علاقة نهائيا، بل حتى نظام التنفيذ كانت صياغته من خارج وزارة العدل آنذاك، وللأسف.. جميع اللوائح التي صدرت من الوزارة كانت على شكل لجان متفرقة وليس بناء على استراتيجية وخطة جامعة لها!
الحقيقة أن التركة ثقيلة جدا على القيادة الجديدة للقضاء، وأدعو الله لهم بالإعانة والتوفيق، وأتصور أنها تحتاج إلى فترة طويلة لمجرد إعادة الترتيب ووضع الرؤى والاستراتيجيات، والجميع متفائل بروح وإخلاص وكفاءة القيادة الجديدة في القضاء بإذن الله.
بعيدا عن تقييم الوضع الحالي نجد أن نظام القضاء ينصّ في مادته الحادية والسبعين التي تتحدث عن اختصاصات وزارة العدل، وفي ثاني فقرة على أن من واجبات الوزارة الرفعَ بما تراه من المقترحات أو المشروعات التي من شأنها رفع المستوى اللائق بمرفق العدالة، وبتأمّل النص نجد أنه عبّر بـالرفع ولم يكتفِ بأن تقوم الوزارة بالسعي لرفع مستوى العدالة مثلا، وإنما جعل من اختصاصها الرفع للمقام السامي بالمقترحات والمشاريع أهمها مشاريع الأنظمة حتى تلك الأنظمة التي ليست من اختصاصها، التي تسهم في رفع مستوى العدالة بالبلد، ما يؤكد الحاجة لمراجعة الأنظمة واللوائح بشكل دوري وتحديثها حتى لو اقتضى الأمر تعديل النظام بمرسوم أو أمر ملكي.
المتحدث الرسمي السابق للوزارة سبق وأن صرح في مناسبة سابقة بأن الإصلاح التشريعي ليس من اختصاص الوزارة، قال هذا تهرّبا من تساؤل مجلس الشورى حينها لضرورة الإصلاح التشريعي ومراجعة هيكلة القضاء وأنظمته، وللأسف.. هذا كان الواقع حيث لم يكن لمركز تطوير القضاء أي جهد تشريعي هيكلي للقضاء، وربما كان التركيز الإعلامي أكثر من أي شيء آخر. لا أذكر هذا والله إلا لما أراه من ضرورة وأهمية التركيز وجمع الجهود في هذا الاتجاه المهمل منذ سنوات طويلة، خاصة مع القيادة الجديدة الواعية.
باعتقادي هناك نقاط جوهرية كثيرة في البنية التشريعية للقضاء تحتاج إلى تحديث، كما إن تنويع الخبرات الاستشارية والقيادية داخله أمر شبه ضروري للرقي بمستوى الجهاز. هناك تحديات كبيرة أمام الجهاز اليوم، فالقضاء المتخصص على الأبواب، وأعتقد أنها خطوة ذات حساسية عالية، وسبق أن كتبت مقالا حول هذا الموضوع، وباعتقادي هناك الكثير من الإجراءات التشريعية الضرورية التي يجب أن تسبق هذا التحول، كما إن التدريج فيها ربما يكون ضروريا، بالإضافة لضرورة تفعيل التدريب والتأهيل الحقيقي لمنسوبي القطاع قبل هذه الخطوة (خاصة في الاختصاصات التي لم تكن من اختصاص الجهاز كالعمالية والتجارية).
هذا يقودنا للحديث حول الآلية القديمة والتقليدية لاختيار القضاة، بينما في أغلب العالم المتحضر يضع اختبارات قياس عملية واشتراطات خبرة وممارسة طويلة قبل الدخول في السلك القضائي. وبنظري أن من الأوليات خلق وظائف بسلم جديد تكون قاعدة لتخريج القضاة في المستقبل كباحث قضائي ومساعد قاض ونحوها، بشرط اجتياز اختبار علمي ومهني دقيق.
هناك مشكلة أخرى تحتاج للمعالجة الجذرية وهي التأهيل واشتراطاته، وبنظري أن القاضي يجب لِزَاما أن يكون ملمّاً بالكثير من القواعد القانونية ودراسة عامة لتفرعات القانون بالإضافة للشريعة، وأعتقد أن هذا ممكن فيما لو تحولت كليات الشريعة إلى تخريج القضاة والمحامين فقط، وكذلك العكس فيما يتعلق بدارسي القانون، وهو أمر ضروري بنظري.
النقاط كثيرة في هذا الموضوع، وأعتقد أن القيادة الواعية الجديدة لديها الكثير من الأفكار والاستراتيجيات، وأعانها الله على التركة الثقيلة التي تواجهها ودعواتي لها بالتوفيق والسداد.