بما أنني على الدوام، أشعر بحب متعاظم للشاعر الصديق محمد زايد الألمعي، جلست أتلذذ بقطعة من قصيدة له، حشَد فيها مجموعة متداخلة من أسباب الموسيقا الداخلية حشدا يدل على اهتمامه الكبير بجرس الألفاظ، لا للتحسين البديعي الظاهر، وإنما لإنتاج دلالات إضافية موازية للدلالات الأصلية، والهامشية معا. يقول في قصيدة عنوانها: الشنفرى:
كأنه يسير نحو موته
مقترحا قصيدة لميتته
لغاته لذاته وذاته
لذّاتُه..
تروي ذبول سيرته
يكاد أن يكدر الكلام بالظلام كي يكف عن مكيدته
فيا له من والهٍ مؤلّهٍ لذاته
يقوده الكهل على خطى طفولته
فما مشى ولا انتشى كما يشاء ما يشاء من نبوءته!
هذه القصيدة وأمثالها، قابلة لدراسة كاملة عن تجليات الإيقاع الداخلي، ذلك أن البنيتين: الصوتية، والصرفية، تحتويان على متشابهات كثيرة، يمكن بها الخلوص إلى نتائج متعلقة بالدلالة العامة في القصيدة، وعلاقة ذلك بما بات يسمى بـتقنية القناع التي قد تكون القصيدة قائمة عليها. أما على مستوى الموسيقا الداخلية فقد تجاورت الجناسات، وتوالت، ودقت، حتى بات الكشف عنها محتاجا إلى إطالة التأمل، وربط النص بشاعرين، هما: مبدعه، والشنفرى، إذ يجانس بين لفظتي: موته، وميتته، لأن الثانية اسم هيئة. وهناك جناسات متعددة، تتجاوز أن تكون بين مفردتين وحسب، فيجانس بين: لذاته، وذاته، ولذاته، معتمدا على ما يحدثه الجر والرفع من فرق في المعنى بين: لذاته، وذاته، ثم يضيف إليهما مفردة: لذّاته، خبرا لـذاته، ثم يجانس جناسا ناقصا بين: واله، ومؤلّه، مسبوقتين بالجار والمجرور: له، ليصبح القارئ أمام ما يشبه ثلاث كلمات متجانسة، ثم يجانس بين لفظتي: مشى، وانتشى، غير مكتف بما بينهما من تشابه صوتي ناجم عن صوت الشين، وإنما يضيف إليهما مفردة تحتوي على صوت الشين أيضا، تبدو مكررة في الظاهر، وهما: يشاء، ويشاء، فالأولى جاءت تابعة لسياق نفي المشي والنشوة، بوصفهما هدفين لم يتحققا، والثانية جاءت بالمعنى نفسه، وهو: يريد، لكنها وردت في سياق يجعل تأويلها بالمصدر ممكنا معنويا، لا نحويا، ليصبح السطر على هذا النحو: فما مشى ولا انتشى كما يشاء المريد من نبوءته!، وذلك على القول بأن اختياره ما -وهي لغير العاقل– متعمد، ليوحي بها إلى أن كل إرادات الشنفرى، أو المختفي تحت وجهه، لم تكن إرادات عاقلة.
وتضاف إلى هذه الجناسات أشكال أخرى من محققات الإيقاع الداخلي، كالسجع في لفظتي: الكلام، والظلام، والطباق بين لفظتي: الكهل، وطفولته، فضلا عن شيوع بعض الأصوات، كصوت الكاف الذي تكرر ست مرات، في تسع كلمات فقط، في قوله: يكاد أن يكدر الكلام بالظلام كي يكف عن مكيدته، وصوت التاء الذي تكرر ست مرات في سبع كلمات فقط، في قوله: لغاته لذاته وذاته لذاته.. تروي ذبول سيرته، ومعه تكرر الذال خمس مرات، والشين أربع مرات في السطر الأخير.
النص راقَ لي، لأنه حفزني على إعادة القراءة مرات، تتلوها مرات.