في ظل عدم اتفاق الكبار على القسمة تنتشر الفوضى وتستباح الأعراض ويستهان بالكرامة الإنسانية. ولكن بؤس هذه المرحلة لا يدفع إلى التشاؤم، فهي حقبة قصيرة لن تطول أبدا
ستظل ظاهرة استفحال الإرهاب مسألة تلاحقنا وتلح علينا في استقصاء المزيد عن أسباب تغول هذه الظاهرة وتسببها في تحقيق انهيارات كبرى في الواقع العربي، مؤدية إلى ابتلاع كيانات وسقوط أنظمة. فليس يكفي الحديث عن تفسيرها القول بوجود نهج تكفيري بالبلدان العربية، فمثل هذا القول وإن كان صحيحا نسبيا، لكنه لا يقدم إجابة شافية. فالنهج التكفيري بقي معنا لقرون طويلة، لكنه لم يلجأ لحمل السلاح إلا في العقود الأخيرة.
وليس يكفي أيضا تفسير استفحال هذه الظاهرة بكونها ردة فعل تجاه أنظمة الفساد والاستبداد وانتشار الفقر. فمثل ذلك في السياقات التاريخية والإنسانية يواجه بانتفاضات وثورات وليس بالقتل على الهوية، وتدمير الأوطان، واشتعال الحروب الأهلية، التي تشكل البيئة الأكثر ملاءمة لانتشار الفوضى والفساد ومصادرة حقوق الناس.
وليس منطقيا أيضا إرجاع كل ما جرى من تغيرات بالوطن العربي إلى المعزوفة المشروخة التي ترجع كل التغيرات الناكسة بالأمة إلى مرحلة الستينات، وتحديدا إلى نكسة الخامس من يونيو عام 1967، فهناك أمم كبرى تعرضت إلى نكبات ونكسات، وتمكنت بإرادة شعبها وعزيمة قادتها من عبور مرحلة الهزيمة إلى مرحلة أكثر نموا وتطورا وعطاء.
ولن يكون ممكنا إقناعنا بأن ثمة خطأ مركب في جيناتنا، فذلك ما هو مناقض لحقائق العلم، إضافة إلى أن التجربة التاريخية أكدت أننا بنينا أعظم حضارة إنسانية، حين ابتعدنا عن ضحالة الفكر، وآمنا بالاجتهاد والحق بالاختلاف، وأننا ارتكسنا حين سفهنا العلم، وتمسكنا بجمود النص. فكانت النتيجة هي انهيار ما أسسه ورعاه الأجداد، وتفرقنا شذر مذر.
القراءات التي حفلت بها هذه المقدمة هي ما تطرحه معظم الأدبيات التي عملت على دراسة أسباب انتشار ظاهرة الإرهاب. وهي في يقيننا أسباب موضوعية، لكنها لا تقدم جوابا مقنعا عن السؤال المضني: لماذا الآن؟!
ما أغفلته هذه القراءات هو التحليل التاريخي للتطورات التي شهدتها الأمة، منذ يقظتها المعاصرة والتسليم بأن الوجود لا يحتمل الفراغ. ووضع كل ذلك في سياق عالمي وإنساني.
وقد لا نأتي بجديد حين نشير إلى أن اليقظة العربية والكفاح ضد الهيمنة العثمانية ما كان لهما أن يأخذا مكانهما ويشغلان حيزا كبيرا في التاريخ العربي لولا تراجع سطوة سلطان الاستبداد في إسطنبول، وفقدانه ممتلكاته في البلقان، وتحرر أجزاء كبيرة من بلدان أوروبا الشرقية من سطوته، وتكالب الدول الاستعمارية الفتية على ممتلكاته.
انهيار الدولة العثمانية واكتساب سلطانها للقب الرجل المريض بالإستانة، هما اللذان مكنا زعماء اليقظة العربية من التحالف مع البريطانيين والفرنسيين، والالتحاق بجيوشهما في الحرب العالمية الأولى أملا في تحقيق الاستقلال. وقد وضعت هذه البداية حجر الأساس في التطورات اللاحقة، وصولا إلى انبثاق حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، وبشكل خاص في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
الأمة العربية كانت دائما تجد فرصتها في الانعتاق أثناء ضعف الإمبراطوريات المهيمنة على العالم. ويكون ضعفها هو نتاج حسم الصراع والقسمة بين الكبار.
فعندما سقطت فرنسا بيد النازية وتضعضعت قوة بريطانيا العظمى الاقتصادية بفعل كلف حربين كونيتين اندلعت حركات التحرر ضد الاستعمار، ليس في الوطن العربي وحده بل في معظم بلدان العالم الثالث. ومن حسن طالع هذه الحركات أن القطبين الجديدين الطالعين آنذاك: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، لم يكونا في وارد تقديم الدعم لحلفائهم بالحرب، فقد كانا يطمحان لوراثتهما.
الولايات المتحدة طرحت بعد الحرب مباشرة سياسة الباب المفتوح، التي تتلخص في حق مستعمرات بريطانيا وفرنسا بتقرير المصير. وشهدت بداية الخمسينات أثناء عهد الرئيس دوايت أيزنهاور استراتيجية إزاحة الاستعمار التقليدي وأخذ محله. وجاء ذلك صريحا، حين تحدث الرئيس الأميركي عما أسماء بملء الفراغ. وكان ذلك مقدمة لنشوء أحلاف وتكتلات عسكرية على مستوى العالم.
أما الاتحاد السوفيتي فخاض كفاحا أيديولوجيا من أجل نشر عقيدته السياسية. وعد ذلك سبيلا لتعزيز حضوره على الساحة الدولية. ومن هذا المنطلق اتخذ موقفا مساندا لحركات التحرر الوطني على صعيد العالم. أمام هذا الانقسام، أتيح للأمة العربية إنجاز مشروع الاستقلال السياسي، وكان لها الخيار في أن تكون مع هذا الفريق أو ذاك، وقد تعددت خياراتها بشكل أو بآخر. وكان عصرها الذهبي هو في الفترة التي ترصنت فيها العلاقات الدولية، وقبل تضعضع أحد القطبين الرئيسين.
تلازمت هزيمة يونيو 1967 مع تغير في المعادلة الدولية، وقد بدأ هذا التغيير بما عرف بالتعايش السلمي، وتوقيع معاهدات حظر السلاح النووي، وصولا إلى شيخوخة النظام في الاتحاد السوفيتي. وكان تدخله عسكريا في أفغانستان بمثابة المسمار الأخير في نعشه، تمهيدا لسقوطه في مطالع التسعينات من القرن المنصرم.
تربع اليانكي على عرش الهيمنة كان حدثا استثنائيا وليس له سابقة في التاريخ. فمثل هذا التربع يلغي مبدأ صراع الإرادات، الذي هو قانون إنساني. ولذلك لم يكن له أن يمتد طويلا. لم تتجاوز حقبته أكثر من عقد من الزمن، عادت بعدها روسيا مجددا بصمت إلى المسرح الدولي، وأطلت بالعلن برأسها بعد ما عرف بالربيع العربي، لتتشكل محاور سياسية وعالمية جديدة في السنوات الأخيرة. لكن معالم نظام دولي جديد يستعد للانبثاق لم تتشكل بعد.
هذه القراءة تعيدنا إلى مقولة أن الوجود لا يقبل الفراغ، ففي ظل غياب ترصين للعلاقات الدولية وعدم اتفاق الكبار على القسمة تنتشر الفوضى وتستباح الأعراض ويستهان بالكرامة الإنسانية. ولكن بؤس هذه المرحلة لا يدفع إلى التشاؤم، فهي حقبة قصيرة لن تطول أبدا، والعالم ومن ضمنه نحن العرب، نستعد لمرحلة قادمة، ربما لا تكون بالخرائط نفسها والأعراف، ولكنها ستشهد ترصينا ووضوحا بالعلاقات الدولية. كيف سيكون مشهد الخارطة السياسية العربية القادمة؟ ذلك سؤال من الصعب الإجابة عنه، لأنه محكوم بصراع الإرادات وبالوعي والإرادة والقدرة على الفعل.