للدكتور سعد شرفات لرؤية الحياة، وظَّف فيها اللغة ليعبر عن قلق المعرفة ويكتب ثقافة الصحراء ويترجم الإبداع في أبهى صورة. ويكفي أن أصفه أنه يسير مع وقت الإبداع مشدودا بالزمن ومعنيا بالإبداع
تلقى المعنّى للقصيد أقرب الناس
كفه على نبض القوافي تجسه
مسرى القصيدة بالهوى تقل وسواس
مثل الوله بين الشفايا تحبسه
يشهق بها الملتاع ما بين الأنفاس
لين انها تشهق بمكنون نفسه
الشاعر سعد البازعي
هناك من يعبر الحياة وكأنه يخشى أن يترك ما يشير إليه فلا تجد له أثرا، وهناك من يحتفي بها في خطواته ومنهم أستاذ اليوم المدهش!
تحلقنا معه الأربعاء الماضي في الملتقى الثقافي بجمعية الثقافة والفنون في الرياض حول نص جميل للشاعر الأميركي: تي. إس. إليوت عن أغنية حب.. فكانت الكلمات التي يقرؤها تارة بلغتها الإنجليزية وتارة يعود لترجمة محمد عبدالحي المكتوبة لها بالعربية تفتح باب النقد المدهش الذي يسكبه من روحه ليصبه في أرواحنا قبل أسماعنا!
أخذ يتحدث عن قيمة النص الأدبية وقيمة الشاعر وترجمات النص التي اختار هذه من بينها ليلقيها علينا، ثم بدأ بالحديث عن المقدمة أو عتبة النص التي دلف بها الشاعر إليوت إلى نصه وهي جزء من الجحيم لدانتي، وغرابة أن يختار عتبته كمدخل للحب من نص يعبر عن الجحيم، ثم استرسل ينتقل بنا عبر القصيدة يأخذ بالشاعر أو يأخذنا الشاعر به فنسير خطوة تلو خطوة عبر تردد شخصية وحيرته في معنى إشارة تلك السيدة له وهل يذهب إلى الحفلة أم لا ونظرته الدونية لنفسه وما سيقال عنه وعن هيئته. استمر الدكتور سعد البازعي بأسلوبه الشيق الذي يمتاز به يُبسِّط الفكرة ويَبسُطها وحين تستمع له متحدثا ناقدا ستدهش من قدرته على أن يصوغ النقد كما يصوغ الشاعر قصيدته، فتقف أمام أبسط تعريفات البلاغة: هي التي يظن الجاهل أنه يحسنها، فبلغة مدهشة قريبة من فهمك مهما تواضع وتقارب وعيك، مهما علا يحدثك عن خلاصة دقيقة يَستَدرِك فيها قبل أن يُستَدرَك عليه ليتركك محتارا تتساءل بينك وبين نفسك أنى له هذا؟!
تواصلت أفكاري بين نقدين ونصين وعمرين كنت أتشبث في الحاضر. ذكرتني بالماضي بقوة مثيرة بداخلي نصا تحول إلى مارد حملنا على بساط الريح دون أن نمسح على المصباح ونستدعيه، وأبقى الشاعر نفسه وغير القصيدة والزمان والمكان وأعادنا إلى ربع قرن من الزمان، وأول لقاء مع الشاعر وقصيدة الأرض اليباب التي تناول الدكتور سعد ترجمتها في كلية الدراسات العليا حين شرفتنا وكيلة قسم اللغة العربية حينها الدكتورة وفاء السنديوني، رحمها الله، مع طالبتين من القسم وكان هذا اللقاء يضم نخبة من أساتذة قسمي الأدب العربي والإنجليزي بإشراف رئيسي القسم الدكتور منصور الحازمي والدكتور البازعي.
ذلك اليوم له ما بعده فكان مختلفا في تشكيل رؤية نقدية أو بعبارة أدق رؤية مختلفة للنقد الذي ألقي في وعينا العربي أنه تركيز على العيوب، فإذا بكلمة نقد أشبه بعبارة افتح يا سمسم التي تفتح مغارة الكنز على النصوص وتثريها.
يختصر الدكتور سعد ومعه قلة من المبدعين مسيرة نقادنا المعاصرين الذين قرروا ألا يكتفوا بالعمل الأكاديمي، فتصدروا المشهد الثقافي بمجرد عودتهم من الابتعاث محملين برؤى جديدة ومعرفة أشبه بعصر النهضة بالدول العربية التي سبقتنا.
نقاد هذا الجيل تجدهم يكتبون في الصحف السيارة ويقدمون أعمالهم في المجلات المحكمة ويحضرون الدعوات التي توجه إليهم داخليا وخارجيا، ويزيد ألقهم مع مرور الوقت أنهم جمعوا الدقة العلمية من خلال عملهم الأكاديمي.
للدكتور سعد مجموعة كبيرة من المؤلفات تمتد من ثلاثة قرون انطلاقا مع شعرائنا في كتابه ثقافة الصحراء كتابه الأول لـإحالات القصيدة كتابه الثاني، ثم يشترك مع الدكتور ميجان الرويلي في كتاب عظيم هو دليل الناقد ومرورا بعدد من الكتب منها سرد المدن، ومترجمات آخرها جدل العولمة.
حين تقرأ للبازعي تقارب السهل الممتنع فهو أديب قبل أن يكون ناقدا، وبعدها وبالتالي ابتعد تماما عن صعوبة لغة النقد أو تكلف اشتقاقاته التي تحول بين المتلقي البسيط وقبول النص المقروء. ولد في بيئة شاعرة حين يتحدث عن الشعر الشعبي أو ما يسمى النبطي، ستجد نفسك أمام شاعر ومتذوق عظيم تذكر معه كتاب خاله الشاعر محمد الأحمد السديري أبطال من الصحراء، وكذلك لو كان الحديث عن المتنبي أو عن أبي تمام أو عن أبي ريشة فهو المتلقي المأخوذ بجمال الإبداع ودهشته، وحين يقرأ لك شعراء كالثبيتي أو الدميني تظنه مبهرا في فن الإلقاء، ولكن حين يتبنى قصيدة النثر ينقلك بكل ثقل الناقد ليبسط لك الفرق بين الشعر والنثر، مختصرا أن الكلام الجميل كالدرِّ إن انتظم فهو شعر، وإن تفرق فهو قصيدة النثر.
ولو كان الحديث عن الأدب العربي تظنه أستاذا لها وحدها، وحين يحدثك عن الإنجليزي أو يقارن بينهم وبيننا ترى ملمحا أجمل منه وهو أستاذ الأدب الإنجليزي أولا وأخيرا.
للدكتور سعد شرفات لرؤية الحياة، وظَّف فيها اللغة ليعبر عن قلق المعرفة ويكتب ثقافة الصحراء ويترجم الإبداع في أبهى صورة.
معذرة لم تكف المساحة لأكمل جوانب أخرى قد تعرفونها عنه، لكن يكفي أن أصفه أنه يسير مع وقت الإبداع مشدودا بالزمن ومعنيا بالإبداع، فخالص الشكر له ولجيله على عطاء معرفي لا ينضب.