كانت الرؤية هي إعادة السوق لا كذكرى جميلة، بل كقيمة ثقافية يمكن منها استلهام أبعاد إيجابية تتداخل مع الواقع المعاصر، وقد استثمر الأمير خالد جيدا ذلك العمق التاريخي للسوق، فأعاد صناعة ذاكرة ثقافية محلية، بامتدادات عربية، تستفيد من الذاكرة الطويلة التي حملتها هذه الأرض
على امتداد كل هذه القرون في حركة الثقافة العربية، يمكن القول بأنها باتت رهينة الماضي، ذلك الماضي الذي تحول إلى عائق ثقافي، بسبب التعاطي الخائف والمنكسر مع التراث، إلى الدرجة التي تخلت فيها الثقافة العربية عن إنتاج حاضرها، بل إن ما تظنه إنتاجا معاصرا هو في كثير من تجلياته ليس سوى إعادة صوتية لذلك الماضي، حتى تحول إلى عقدة باتت فيها الثقافة العربية بخلاف بقية الثقافات تعيش الماضي ظرفا لا قيمة، وذهنية لا معنى، وهو ما تحول معه التقليد إلى أن يصبح الأداة الأبرز تأثيرا والأنشط في هذه المعادلة.
الوعي الثقافي الحقيقي يفترض بمختلف الثقافات قراءة التراث قراءة تاريخية، تتم في السياق الذي يسعى إلى قراءة وفهم التغيرات التاريخية، وليس العيش فيها، والحياة على ضوئها المتهالك، لأنها وبحكم تاريخيتها تفتقد قيمة الحدث، إلى قيمة المعنى، وهي القراءة التي حاولت مختلف حركات التنوير في الثقافة العربية أن تشيعها في مختلف مفاصل الوعي الثقافي العربي، لكن سلطة التقليد كانت أعلى.
وبكل أسف، فرغم القيم العالمية العليا التي حملها الدين الإسلامي، فلم يلبث أن تم التعامل معه بذات الأدوات التي فرغته في كثير من جوانبه من قيمه وأفكاره وانشغلت بالعيش في أحداثه، بمعنى أنها مررت الدين الإسلامي على ذات أدواتها وأفكارها، لنجد أنفسنا أمام واقع تحاصره وتديره أدوات الثقافة العربية بكل ما فيها من عيوب صنعتها تلك الأنساق الثقافية، ووصلت بها إلى الدرجة التي باتت تنتج خطابا يدافع عن ذاتها، ويحمي عيوبها، ويمنح من القوة لأدواتها لتتلون بمختلف الأشكال التي تسمح لها بالسيطرة على مختلف المستجدات الحضارية، وبكل أسف فقد تعرض الإسلام بعظمته إلى كثير من هجمات الثقافة وأدواتها، وهو ما نقل التقليد من أداة فاعلة ومؤثرة في الثقافة إلى أداة تقوم بذات الدور وبشكل أكثر نكاية في التعامل مع القيم والأفكار الدينية، مما جعل التقديس فكرة لا ترتبط بالقيم والأفكار، وإنما بالأحداث والمواقف ما أفقدها قيمة الامتداد التاريخي والثقافي، وجعلها تتحول إلى شعارات ومواقف تؤمن بالثبات أكثر مما تؤمن بالحيوية والامتداد القيمي عبر التاريخ.
ما الذي يستدعي كل هذا أثناء الحديث عن سوق عكاظ؟ في الواقع فإن التردي الذي تحظى به كثير من حالات العودة للتراث هو الذي يستدعي ذلك، فلقد أصبح الحاضر برمته بالنسبة لنا أشبه ما يكون بتابع من توابع الماضي وعالة عليه.
ذلك التقليد أوقعنا كذلك في علة متناقضة تتعامل بانتقائية مع الماضي، وبنوع من الفرز المفتعل تخاف من قيمه وتحافظ على أحداثه، ولذلك غالبا ما تكون لدى الذهنية التقليدية حالة من الخوف والقلق من المواقع والأماكن التاريخية، ذلك أن المكان لا يحتفظ بالحدث وإنما يحتفظ بالقيمة، بينما التقليد يحتفظ بالحدث ويسعى لتكراره حكما لا قيمة، ولكن ما يحدث من اكتشاف لسوق عكاظ يقدم روحا جديدة في التعامل مع التراث والتاريخ.
عكاظ في الذاكرة العربية تمت قراءته كثيرا إنما من خلال عملية تذكّر جامدة غالبا، بينما نشهد عملية إحياء يعيشها السوق الآن، عبر إعادة تعريفه ومنحه قيمة واعية، تجعل منه منظومة من الأفكار والرؤى، وليس مجرد موقع تاريخي، وأبرز ما في عمليات الإحياء التراثية الواعية تلك التي تجعل من الماضي جزءا من الحاضر وقادرا على التفاعل معه، وهو ما يبدو واضحا لكل لمن حضر فعاليات السوق.
يدرك الأمير خالد الفيصل هذه المعادلة جيدا، خاصة أنه ينتمي إلى ذات الثقافة العربية التي تأزمت علاقتها مع التراث فكانت الرؤية هي إعادة السوق لا كذكرى جميلة، بل كقيمة ثقافية يمكن منها استلهام أبعاد إيجابية تتداخل مع الواقع الثقافي المعاصر، وقد استثمر الأمير خالد جيدا ذلك العمق التاريخي للسوق، فأعاد صناعة ذاكرة ثقافية محلية، بامتدادات عربية، تستفيد من الذاكرة الطويلة التي حملتها هذه الأرض، وجغرافيا المملكة العربية السعودية، التي يجدر بها أن تستفيد من استقرارها السياسي والاقتصادي لتقيم حاضرا ثقافيا يتكئ على ما تتميز به من عمق تاريخي متنوع.
في لقائه بالمثقفين، حرص الأمير خالد الفيصل على أن ينتهز كل سؤال ليكرر فيه جملته التي ملأت أسماع الجميع: إننا نريده عكاظ الماضي وعكاظ الحاضر وعكاظ المستقبل. وهو ما يكشف استيعابه لما يمثله الحضور المجرد للتاريخ كعنصر من الماضي، إذ يتحول التاريخ إلى مجرد قطعة أثرية قديمة، بينما يكمن التحدي في ربطه بالحاضر والمستقبل.
في الأعوام القادمة – ولأن خالد الفيصل – لا يمل من الركض خلف كل ضوء يراه حتى يتحول إلى نور يضيء المكان، سوف نجد أننا لا نقف أمام سوق عكاظ التاريخي، وإنما أمام سوق عكاظ الحضاري.