إن استمعت للفقهاء والعلماء الربانيين قادوك إلى راية واحدة تدرك العواقب والمآلات، وإن استمعت لبعض المطاوعة قادوك إلى رايات شتى تبدأ من 'بوكوحرام' في أقصى أفريقيا وتنتهي بـ'داعش' في أرض الرافدين
لن أدخل في دهاليز المصطلحات للتفريق بين بعض (المطاوعة) و(الفقهاء)، لكني سأستعرض تصورات تسهل على القارئ التفريق بين (مطوع) و(فقيه) في حياتنا العامة والخاصة، فعندما تحضر مناسبة في منزل أحد الأقارب أو الأصدقاء وترى المجلس مليئا بالمدعوين، تلاحظ كيف أن مطوعا ما مشغول بالهيمنة والسيطرة على مجريات الحديث في المجلس كأنه في منزله، فإن عجز عن ذلك قام بإسكات المتحدثين بموعظة يبدأها بخطبة الحاجة التي حفظها ويكررها في كل مناسبة لغير حاجة، حتى أصبح ثقيل الظل على مستمعيه، وعندما تتجه في المجلس نفسه إلى (الفقيه) وتسأله عن صمته ووقاره عند حضور مثل هذه المناسبات الاجتماعية وعدم مداخلته في كل صادرة وواردة، يبادرك بإجابة تؤكد لك سعة علمه وفقهه فيقول: عند الفقهاء أن الرجل مهما بلغ من العلم لا يجوز له أن يكون إماما للمصلين في منزل أحد إلا بإذنه، رغم أن الصلاة لن يكون فيها إلا التكبير وقراءة القرآن، ورغم هذا اشترط الشارع فيها إذن صاحب المنزل، فما بالك باستغلال التقدير الديني في نفوس الناس للهيمنة على مجالس الناس بموعظة عابرة يختلط فيها الحديث بالقرآن بالقصائد وأحيانا الأحاديث الموضوعة مع بعض الطرائف والنكت، ويسمون كل هذا الكشكول (حلقة ذكر)!! ولكل مقام مقال، ثم يسترسل الفقيه فيقول: ولا يعني هذا أن لا يكون لنا دور عندما يعرض للناس أثناء تبادل الأحاديث مسألة فقهية أو حكم شرعي فنجد من خلاله مدخلا للحديث نشرح فيه ما نراه دون إثقال على الناس برأي متشدد، مع بيان سعة الخلاف وأنه من سماحة الدين مع بيان الراجح في مذهبنا، دون تثريب على المخالف، وإن طلبوا منا الحديث حدثناهم دون إكثار على القلوب فتمل اقتداء بفعل الرسول الكريم.
تتأمل مطوعا ما باستغراب وهو يشير على كبار السن بسرعة المبادرة إلى الصلاة فور سماعه المؤذن، ثم يجهز نفسه للإمامة في منزل غيره كتحصيل حاصل دون أن ينتظر من صاحب المنزل أن يأذن له، بل هو يستأذن كتقرير لواقع أحقيته بالإمامة رغم أنف الجميع، حتى ولو كانوا لإمامته كارهين، فهو يعيش وهم ما في هالبلد إلا هالولد، فتسأل الفقيه: وكيف يفعل المرء إن حان وقت الصلاة وهو في مجلس الضيافة، فيجيبك بهدوء وتواضع: يجب أن تكون حريصا على ترتيبات صاحب المنزل وظروفه التي لا تعلمها، فحقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق الناس مبنية على المشاحة، وإذا اجتمع العَشاء والعِشاء فابدؤوا بالعَشاء قبل العِشاء، وكل هذا تستحضره وأنت تستلطف أصحاب المنزل بالسؤال الهامس عن موعد الغداء أو العشاء، وهل هناك متسع لحضور الصلاة في المسجد، دون أن ترفع الصوت لتربك الضيوف وصاحب المنزل، فإن أخبرك بأن في الوقت متسعا فبإمكانك أن تستثمر استئذانك من الحضور في أن تذكرهم بالصلاة دون أن تشعرهم بالوصاية التي تؤذيهم، فهم ليسوا صغارا ينطبق عليهم حديث واضربوهم عليها لعشر، بل مسلمون عدول أكفاء لك في الدين والخلقة، فتقوم مستأذنا وتقول: عن إذنكم سأنصرف للصلاة إلى المسجد القريب، وفي هذا الكفاية وكامل الأدب، وإن طلبوك إماما لهم دون تصدر منك لذلك، وأذن صاحب المنزل فلك ذلك وتسأل الله صلاح النية مستعيذا بالله من الشرك الخفي.
يفاجئك مطوع آخر بموعظته في المجلس ثم وهو يعظ تراه يلمز مجموعة من الشباب الموجودين على إسبالهم للثوب، فتسأل الفقيه عن هذا فيقول لك: كان الرسول يقول: ما بال أقوام..، حفاظا على مشاعر السامعين أن يحرجهم، ثم يذكرك بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف والإسبال مختلف فيه ما بين من يرى العلة في الكبر والخيلاء ومن يرى خلاف ذلك.
تستذكر جماعة جهيمان العتيبي التي انشغلت بأداء دور المطوع في تطويع الناس لما تراه دينا ولو باحتلال الحرم، وتركت التفقه في الدين لتتهذب الأخلاق وتسمو الروح عن احتقار الناس، فبهذا أدخل التجار المسلمون شرق آسيا في الإسلام دون قطرة دم واحدة.
تفتح مواقع التواصل الاجتماعي فترى (مطاوعة) يحتفلون بترجل معالي الشيخ عبداللطيف آل الشيخ عن منصبه، وترى الفقهاء يرسلون له الشكر والتقدير على ما بذله من جهد مخلص ليكون (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وفق ما يراه (الفقهاء) العارفون بفقه الواقع وتغير الأحوال والأزمان والأمكنة، لا وفق ما يراه (هؤلاء المطاوعة) الذين يزايدون في كثير من أحوالهم حتى على (هيئة كبار العلماء) ليختلط بينهم وفيهم كل ذي باطل يستره ببعض الحق.
عندما تستمع لفقيه يزداد حبك لمن حولك من أهلك ويزداد حسن ظنك بالناس، وعظيم رجائك في رحمة الله، وترى في نفسك مراوحة بين الخوف والرجاء عند واسع المغفرة وكريم العطايا، وعندما يحدثك المطوع تكره الدنيا بمن فيها، وتبغض جارك، وبعض أهلك، وتشك في دين من حولك، وتتوهم في نفسك بلوغ الثريا ببعض الرقائق التي يشغلك بها عن فقه دينك ودنياك لتعيش حياتك كالمنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
إن استمعت للفقهاء والعلماء الربانيين قادوك إلى راية واحدة تدرك العواقب والمآلات، وإن استمعت لبعض المطاوعة قادوك إلى رايات شتى تبدأ من بوكوحرام في أقصى أفريقيا وتنتهي بـداعش في أرض الرافدين.
ختاما لنتذكر أن كبار الصحابة عانوا من أناس نحتقر صلاتنا إلى صلاتهم وصيامنا إلى صيامهم في جباههم كركب المعزاء من آثار السجود، ولهذا من حق الفقهاء والعلماء علينا أن نذود عنهم (إيمان الأغبياء لأنه غباء يتحول إلى إيمان)، فهل عرفنا الآن الفرق بين الفقهاء الذين أفنوا حياتهم في طلب العلم، وابن حارتنا النطاط القديم على جدران المنازل الذي أصبح (مطوعا)؟!