خلال الأحداث الجسام التي مرت بالمنطقة في السنوات الأخيرة أيقن الهرفي أن ما يجري هو سراب يحسبه الظمآن ماء، وأن ما سيتأتى عنه، لن يكون سوى ضياع الأوطان وتفتيت الهويات، وعدّ التمسك بالهوية الوطنية الجامعة طوق النجاة

سؤال دار بخلدي وأنا أستحضر صورة الراحل الصديق الدكتور محمد علي الهرفي، لماذا لا نكتب عن الأشخاص المتميزين، مفكرين ومبدين، أثناء حياتهم، وهل أن لغة الحضور لا تجد مكانا أصدق للتعبير إلا في ظل الغياب، ولم أجد تفسيرا لذلك سوى أن ما نكتب عن السير العطرة هو تعبير عن لوعة الفراق، وهو ما يحقق لنا بعضا من التوازن.
الدكتور الهرفي هو من الأشخاص القلائل الذين تكتظ سيرتهم بما هو عذب وجميل. فهو العالم الذي لا يكل عن القراءة والبحث، وهو الأستاذ الحاني على طلابه، والمتميز في أدائه، محاضرا بالجامعة، وهو الإداري البارع والحاسم أثناء عمله، وهو الوطني في انتمائه وتشبثه بهويته، وهو القومي في نصرته للقضية الفلسطينية، وهو الإنسان في رحابة صدره، وإيمانه بالحق في حرية التعبير وقبوله للفكر الآخر.
تعرفت على الدكتور الهرفي في مؤتمر عقد عام 2000 بمملكة البحرين في فندق الهوليدي إن. وكان المؤتمر مكرسا لمناقشة مخاطر التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولإيجاد الصيغ لدعم صمود الشعب الفلسطيني، القابع تحت الاحتلال، في الضفة الغربية وقطاع غزة، ووجدته متمكنا ورصينا وجريئا في طرحه، وصادقا فيما يطرحه من رؤى وأفكار، وغزيرا في علمه، ومنذ ذلك اللقاء بدأت رحلة صداقة متينة تعززت مع الأيام.
تكررت لقاءاتنا عدة مرات على هامش مهرجان التراث والثقافة بالرياض، وأيضا في مهرجان عكاظ بالطائف، وأيضا في لقاءات تكررت مرات عديدة في منتديات ثقافية بالمنطقة الشرقية، وفي كل هذه اللقاءات وجدته يضيف كثيرا من خلال الآراء القيمة التي يطرحها.
وكلما اقتربت من الراحل العزيز تكشفت لدي سجايا حسنة جديدة. فهو، لفرط تواضعه وحسن إصغائه، تحسبه يتعلم منك ثم ما تلبث أن تكتشف أن إصغاءه تواضع وليس جهلا، وأنه ملم تماما بالموضوع الذي تتحدث عنه، وصفه ذوو الفقيد وأهله بالحنون وصاحب القلب الطيب، وبالشجرة التي يستظل بها الأهل والأقرباء والمحبون.
والهرفي هو أكاديمي مقتدر وقارئ جيد للتاريخ، وبشكل خاص تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، وقد قادته قراءته المعمقة للتاريخ، لاتخاذ سبيل الشك للوصول إلى اليقين، فيما يتعلق بالحوادث التاريخية. واقتنع أن الخير ليس له طريق واحد، بل طرق ووسائل متعددة. ومن خلال هذه القراءة تكشف له أيضا أن ضعف الأمة هو في تشتتها وفقدانها لوحدتها، ولذلك جاهر برأيه في أهمية الحوار والتقارب بين المذاهب الإسلامية، ولم يغفل وهو يطرح ذلك عن تأثير هنات وإشكالات هنا وهناك، تقتضي التصحيح، واعتبر تصحيح الأخطاء، من منطلق الحرص على سلامة الطريق، وصلابة التقارب، أمرا لازما لخروج الأمة من محنتها وتمزقها.
وخلال الأحداث الجسام التي مرت بها المنطقة في السنوات الأخيرة إثر بروز ما عرف بالربيع العربي، أيقن الفقيد أن ما يجري هو سراب يحسبه الظمآن ماء، وأن ما سيتأتى عنه لن يكون سوى ضياع الأوطان وتفتيت الهويات، وعدّ التمسك بالهوية الوطنية الجامعة طوق النجاة في خضم هذه الأمواج المتلاطمة الذي يعصف بمعظم بلدان المنطقة. وقد عبرت كتاباته في عدد من الصحف العربية بشجاعة عن هذا الرأي.
ومن هذا المنطلق، دافع الدكتور الهرفي بقلمه عن الوحدة الوطنية، وتكاد لا توجد له مقالة منشورة إلا وتتعرض لهذا الموضوع، بشكل مباشر أحيانا متى ما اقتضى الأمر ذلك، وبشكل غير مباشر في غالب الأحيان. ومن هذا المنطلق أيضا طالب في كتاباته بإصلاح وتنمية قطاع التعليم، ولفت الأنظار إلى أهمية الاهتمام بالقطاع الصحي.
وفيما يتعلق بأهمية بناء الوطن، لم يترك الدكتور الهرفي موضوعا إلا وتطرق له. ولعل عناوين الكثير من مقالاته هي أكبر دليل على اهتمامه الخاص بتنمية الوطن والمواطن. فهو يكتب عن المتقاعدين، وينشر مقالة في صحيفة عكاظ تحت عنوان المتقاعدون لهم الله. ويكتب عن مشكلة الروتين وما تتعرض له المرأة، تحت عنوان الأنظمة وحكايا النساء، ويناشد الجهات المعنية بمكافحة الفساد بمقالة عنوانها يا نزاهة أنقذونا قبل الغرق. ويطالب في مقالة كتبها بعنوان التعليم والعقول السليمة، بتطوير التعليم ومخرجاته. ويشير إلى حوادث المرور التي تفتك بأرواح الشباب، والتي كان الراحل من أحد ضحاياها، ويقول في مقالة له إن ساهر لا تكفي، هذا غيض من فيض، فالراحل تعرض لكل معوقات التنمية، من بطالة وأمية، وتفشًّ للروتين، وغلاء الأسعار، وتفشي مظاهر التحرش، وغلو بعض رجال الدين، وطالب بتطوير القضاء، وشجع عن النهوض بالرياضة. ولم يترك شاردة أو واردة إلا وكتب عنها وناقشها في كتاباته المتميزة. وفي كل عطاءاته وإبداعاته كان يمتلئ صدقا وحماسة.
كتب في عدد من الصحف المحلية والخليجية. وحين انتقاله للرفيق الأعلى، كان بالإضافة إلى عمله الأكاديمي في جامعة الملك فيصل بالأحساء، ناشرا مستمرا في صحيفة الرياض، وصحيفة الشرق القطرية، والوسط البحرينية، والأنباء الكويتية. وهو عضو في الهيئة العالمية الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
رحل عنا الصديق الراحل الدكتور محمد الهرفي بجسده، وترك لنا زادا ثريا من خلال سيرته العطرة وكتاباته المتميزة. تغمد الله روح الفقيد بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه وأصدقاءه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.