قضية السريحي تكشف عن رأس جليد الأزمة التي يعيشها الوضع الأكاديمي في جامعاتنا السعودية، فهيمنة التيارات المتأدلجة أيا كانت: إسلامية، ليبرالية، عروبية تحد من حرية البحث الأكاديمي

غالبا ما جنحت العلوم بمجملها إلى سياقات غير علمية، وهي السياقات التي كانت، ولا تزال، تهيمن على الخطاب العلمي من خارجه: سياسية أو دينية أو اقتصادية؛ فضلا عن كون العلوم نفسها يمكن أن تتموضع في الواقع، أو بالأصح، يموضعها الواقع لواقعه. صحيح أن العلوم ليست خارجه عن السياقات المعرفية والثقافية العامة التي توجد فيها، وإنما المسألة في مدى هذا التموضع، بمعنى أن ما يحدد علمية هذه القضية أو لا علميتها هو في قدرة تأثير الواقع غير العلمي على علميته كأن تتدخل السياسات في تغييب النتائج العلمية، أو تحويلها من سياقها العلمي إلى السياق السياسي، أو محاولة الاستفادة الاقتصادية من منتجات العلوم.
صحيح، أيضاً، أن العلوم ليست بريئة كذلك بحكم تموضعها في الواقع شاءت أم أبت، ولكن المواضعات، أو الأعراف، والتقاليد العلمية، والأطر المتعارف عليها يمكن أن تحد كثيراً من تلك التأثيرات غير العلمية، فأصل العلوم أنها خارجة عن تأثيرات غير الأعراف العلمية عليها، فالعلم يبحث في التشكيك بالمسلمات العلمية، وغير العلمية، في حين أن تأثيرات الواقع عادة ما تذهب إلى تكريس الواقع، وتحاول نفي العلم عنه، أو على الأقل الاستفادة منه في تكريس واقعيته، ومتى ما خرج العلم بمفاهيم جديدة مخالفة فإنه يتم تغييبها، إما بدعاوى علمية، أو بدعاوى سياسية، أو دينية لا علاقة لها بأصل المشكلة العلمية التي انبنت عليها القضية المطروحة.
هذا الإطار النظري هو ما يحدد قيمة بعض الجامعات من الناحية الأكاديمية أو لا قيمتها، فالأعراف الأكاديمية خاضعة، أو هكذا يجب أن تكون، إلى العلم، وليس إلى ما هو خارجه، فالاستقلالية العلمية هي المطلب الأكاديمي الذي يحقق نوعا من الحرية البحثية، والاستقلالية العلمية هذه لا تقتصر في استقلال الجامعة عن أية تأثيرات أو على الأقل تحد منها، وتضعها في أضيق حدودها، إذا كان متعذراً عليها الاستقلالية الكاملة.
وبإخضاع الجامعات السعودية إلى هذا الإطار النظري سنجد أن جامعاتنا، في معظمها، لا تتسم بالاستقلالية، أو أن مساحة الحرية البحثية لديها خاضعة للواقع أكثر مما هي خاضعة للمعايير العلمية؛ فالحرية البحثية تغيب في جامعاتنا لأسباب عديدة تبدأ من الأستاذ الجامعي المباشر، ولا تنتهي عند حد معين من السلطات الهرمية المتراكمة، سواء داخل الجامعات، أو خارجها، لتجهض المشاريع العلمية الحقيقية لمصلحة أمور لا علاقة لها بالبحث العلمي لا من قريب ولا من بعيد. هذا غير أن الخطابات الفكرية المهيمنة لها تأثير قوي على سير بعض الجامعات بحيث توصف جامعات بأنها محافظة وبعضها الآخر بأنها أكثر انفتاحاً، في حين أن العلمية غائبة في الاتجاهين بسبب هيمنة الخطاب المسيطر، فيصعب عندها دحض المسلمات التي تتكئ عليها الجامعات المحافظة أو المسلمات التي تتكئ عليها الجامعات المنفتحة، وكان من الأولى أن تكون الطرق العلمية هي الوسائل المتبعة بغض النظر عن اتجاه الباحث تحديثياً كان أم تقليدياً.
وحتى لا يكون الحديث نظرياً فإن مثال قضية سعيد السريحي يكشف هذه المشكلة، وقد أعاد الحديث عنها في تويتر قبل أسابيع عدد من المغردين، وهي قضية شهيرة حدثت أواخر الثمانينات الميلادية. ما حصل أنه تم سحب درجة الدكتوراه في قسم اللغة العربية في جامعة أم القرى من سعيد السريحي بعد أن قدم رسالته عن التجديد في اللغة الشعرية عند المحدثين في العصر العباسي، ومن الواضح أن الرسالة في النقد الأدبي، وقد استخدم الباحث المناهج النقدية الحديثة لتقديم تحليلاته في الرسالة، وقد منحت اللجنة المناقشة درجة الدكتوراه للسريحي، لكن سحبت لاحقاً وفق مبررات غير واضحة، وفي الخطاب الذي نشر، الموجه من قبل عميد الكلية في وقته، بناء على عدم موافقة مجلس الجامعة على الرسالة نجد تبريراً غريباً لعدم الموافقة على الرسالة لما اشتطت عليه من أفكار وعبارات ومنهج غامض لا يتفق وتعاليم ومبادئ ديننا وبيئتنا ومجتمعنا الإسلامي، هذا غير أن الخطاب كان يطالبه بالاستتابة، لكن ثبت لاحقا أن هذه المناهج أصبح معمولا فيها في غالبية الجامعات السعودية، مما يدحض فكرة عدم تناسبها مع المجتمع والدين والسياسات العليا للجامعات، ولكن بقيت قضية السريحي معلقة حتى الآن وذهب استحقاقه لدرجة الدكتوراه ضحية أفكار خارجة عن القضية العلمية.
جاءت قضية السريحي في وقت الصراع بين تيار الحداثة والتيار الإسلامي في الثمانينات الميلادية بالسعودية، وهو الصراع الذي ألقى بظلاله على دكتوراه السريحي، فموجة الصراع لم تكن لتسمح بأن تخرج رسالة وفق المناهج النقدية الحداثية من جامعة طابعها كان إسلامياً، مع أن الباحث استخدم نفس الأدوات في رسالة الماجستير من نفس القسم في نفس الجامعة، ولكن لأن الصراع لم يكن ظاهراً كما في وقت تحضيره رسالة الدكتوراه، فقد أجيزت رسالة الماجستير، وسحبت درجة الدكتوراه، مما يعني أن التأثيرات خارج الأطر العلمية هي التي أثرت على سحب الدرجة، وليست المادة العلمية المقدمة، أو الاعتماد على صحة الأدوات البحثية أو عدم صحتها. وهذا ما يجعل استقلالية البحث العلمي محفوفة بالمخاطر التي يمكن أن تقوض المادة العلمية لكونها خضعت لمعايير أيديولوجية بغض النظر عن صحتها أو عدمه، فطغت المعايير الفكرية المسبقة على المعايير العلمية المقدمة، وفي حال سلطة تيار مهيمن، أي تيار على الجامعات، فإنه يمكن أن تعمل هذه السلطة عملها في المجال الأكاديمي وتؤثر عليه في سياقاته العلمية، ورغم أهمية عدم تداخل الحقول: (الحقل السياسي. الحقل الديني. الحقل العلمي... إلخ) كما هي نظرية بورديو، إلا أنها تتداخل، ويؤثر بعضها على بعض، أو يهيمن بعضها على بعض، مما يحد من استقلالية هذا الحقل عن ذاك، وفي قضية السريحي هيمن الحقل الديني على الحقل العلمي، مما سبب تلك القضية وسقطت العلمية أمام هيمنة الخطاب الأيديولوجي.
هذه القضية، وإن كانت فردية في حادثة السريحي، إلا أنها تكشف عن رأس جليد الأزمة التي يعيشها الوضع الأكاديمي في جامعاتنا السعودية، فهيمنة التيارات المتأدلجة أيا كانت: إسلامية، ليبرالية، عروبية تحد من حرية البحث الأكاديمي، ويقولب العلوم في كل مجالاتها: النظرية والتطبيقية، وفق هيمنة الخطاب المسيطر كما حصل في بعض الدول الشمولية في أوروبا الشرقية، في بدايات القرن العشرين، مما اضطر العلماء إلى الهجرة.