عبدالله.. منذ طفولتك وأنت هامة مشرئبة وفارس من فرسان الجزيرة، وسياج للوطن وللأسرة السعودية وللجزيرة بفلواتها وأهليها ودينها وقيمها وعاداتها وتقاليدها

عمت مرقدا، وهنئت مستودعا، وطافت حولك الملائكة حامية مرحبة، قائدا عظيما وأبا حنونا، وراعيا راشدا عادلا، وحاكما مهابا، وصقرا حائما لا يطوى له جناح. لم تكن حاكما تولى الحكم ثم سار كسائر حكام التاريخ، وإنما أنت نبتة في ثنيات الوطن وفي حشاشة فؤاده. منذ طفولتك وأنت هامة مشرئبة، وفارس من فرسان الجزيرة، وسياج للوطن وللأسرة السعودية وللجزيرة بفلواتها، وأهليها، ودينها، وقيمها، وعاداتها، وتقاليدها، ونسائها وعجائزها وأطفالها، وكل ما دب على رمالها، بحب وبعشق وبولَه ابن الصحراء الناثرة خطاه حبات الرمال.
عبدالله بن عبدالعزيز، كيف للعين أن تغمض جفنها بعدما جحظت أعين البشر فتحجرت! فلا غمض ولا حتى دموع، ولا نوم، ولا يقظة، من هول الصدمة ومن وجع الفراق، ومن جلل المصيبة ومن رمية سهم الزمن لكل صدر من صدور أبنائك المحبين والمتعلقين بأهداب بشتك الوارف الرفراف على ربوع الوطن. فلم ولن ترحل، لأنك نبتة بين الحنايا وفي كل الحنايا، حنايا الوطن الضامة على صورتك وهيبتك، وأفعالك وشخصك الحاني الودود، والسهم القادح في عيون عِداك.
في كل مئة سنة يظهر رجل عظيم، يغطي الأرض حبا وسلاما، ومجدا ورفعة، وحكمة وفكرا، مجددا ومغيرا ليس في موطنه فحسب، وإنما في سائر بلاد الله، فيتهلل العالم لطلعته، وينصت الجميع حين يتكلم، ويبكي عليه الحجر قبل البشر حين يودع ملوحا بيديه تحية وسلاما.
إنه الملك عبدالله طيب الله ثراه وأسكنه الفردوس الأعلى. نعم هو حكيم وظاهرة القرن، الذي لن يتسع هذا المقال لذكر مناقبه وأفعاله، فقد سودت الصحف، وأفرغت الأقلام ما في جعبتها على الصعيد الإعلامي العالمي والمحلي، لذكر أفعاله وإنجازاته وشيمه ومناقبه، وبالرغم من كل هذا فلم ولن توفيه حقه على الإطلاق.
ولكن لنا في هذا المقام بعض التأمل هنيهة في هذه الشخصية الفريدة! كيف تكونت، وما هي مقومات تكوينها كي تنتج لنا هذا القائد العظيم الذي يجب أن يدرس في علوم السياسة والاجتماع والتربية.
لم تكن ملامح شخصية الملك عبدالله نتاج مصادفة، وإنما شأنه شأن أبناء عبدالعزيز، فهم جميعهم نتاج عبقرية سابقة، لها شأنها أيضا في الفكر، والدهاء والعبقرية والتربية والتنشئة، والذي لم يجد الزمان بمثل عبقريته على الإطلاق وهو الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه.
فقد تعمد - رحمه الله - في بداية حكمه على الزواج من كل القبائل السعودية، كي تكون كل قبيلة صهرا ونسباً له، ونحن نعلم رابطة النسب والدم في الأعراف القبلية.. هذا أولا. ثم ينجب من كل قبيلة ولداً، ثم يوصي بالحكم في أولاده وهذا ثانيا. فيرتبط الحكم بالقبيلة بحيث تكون لكل قبيلة دماء دافقة في الحكم، وهذه أولى لبنات الديموقراطية التي يتشدقون بها الآن في فلسفاتهم الغربية بينما ولدت بيننا وعلى يد الملك عبدالعزيز دونما أن نولول كسائر المولولين في هذا الزمان، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى وبالعودة لتكوين شخصية الملك عبدالله وكيف أسر القلوب شرقا وغربا وقبله وبعده أبناء عبدالعزيز، يتضح لنا أن السر في عبقرية عبدالعزيز نفسه، بما أن هذا التكوين يعم سائر أبنائه وبدون تمييز وفي شأن صناعة كيف يكون الأمير والحاكم والمفكر.. وكل مقومات القائد!
دائما يقال إن الرجل ابن ست سنوات، أي أن التكوين في السنوات الأول لها شأنها، ولذا كان الملك عبدالعزيز يدع الابن في رعاية أجداده في سنواته الأولى، فيربى على الدين والعادات والتقاليد والفروسية، وذلك لاتساع الأفق على مدى البصر في البيئة المفتوحة خارج أسوار القصور، والتي تعمل على اتساع أفق الذهنية وتركيبها تركيبة صافية ومفكرة، وذهنية ذات قريحة متفتقة حاضرة، وهذا ما نلحظه في كل أبناء الصحراء. وبعدها يعمل - طيب الله ثراه - على صناعة الأمير بعناية غير متكلفة، تأتي طواعية وبهوادة غير مضنية للولد، فيحتضنه ويحضر له العلماء لتعليمه وتربيته، ثم يصطحب أبناءه في المجالس والمحافل، فيتشربون بماء الحكم والحاكم والحضور وتوقد الذهن الحاضر في أي لحظة وفي كل ظرف، وللفروسية وفنون القتال والشعر وغير ذلك شأنها في تربية أبناء عبدالعزيز، فينشئون جميعهم نباتا في أرضهم يمدون جذورهم بعمق ترابها.. هكذا يصاغ وجدانهم، فيعشقون الوطن ويذوبون فيه ذوبانا لا يخالطه كبرياء، أو تعنت، أو غطرسة ما نراه في ملوك الأزمان الغابرة.
هكذا كان الملك عبدالله وفهد وخالد وفيصل وسعود وسائر أبناء عبدالعزيز، وقد تجلى لنا ذلك في تلك السلاسة وبساطة انتقال الحكم.. شيء عجيب ومذهل لأولئك الذين يسنون أقلامهم منذ أشهر أو سنوات، وليس لهم شاغل سوى كيف ينتقل الحكم وتدوين بعض (الخزعبلات) التي هي من صنع خيالهم الشارد والواسع الذاهب مع الريح.
فلم تلبث الصدمة أن تلوي إلا ويسود الارتياح وتعم الطمأنينة قلوب جموع الشعب المحب بتولي الملك سلمان بن عبدالعزيز سدة الحكم، فهو أهل ووطن وحاكم إنساني، هكذا عهدناه منذ أن تفتقت نظرتنا على الحياة وهو أمير للرياض ثم ولي للعهد ثم ملك، فكان خير خلف لخير سلف، ولهذا تدفق الشعب كالسيل الهادر على مبايعته ملكا على البلاد. سدد الله خطاه وأمد الله لنا في عمره.. وأسكن عبدالله الفردوس الأعلى.