حمد سيدي

الروح: هذا الاسم الذي نعرفه جميعا دون أن ندرك كنهه أو نعي جوهره أو نعرفه في ذاته إذا استعرنا لغة الفلاسفة، هي ما يسيطر على تجربة الشاعر عبدالله ناجي.. في ظلها تتحرك معظم نصوصه وتجاربه وخياراته الشعرية، حيث يتبدى لنا الشاعر ـ طوال الوقت ـ مولعا بهذه المفردة العالية، دائرا في مداراتها المتعددة وسابحا في فضاءاتها اللامحدوة واللانهائية، باحثا عن ذاته أولا وعن معنى وجوده ثانيا وعن مغزى رحلته في الحياة.. ومحاولا إضفاء قيمة متعالية على كينونته وذاته كإنسان يحيا في هذا الوجود الواسع والمتنوع والغامض والمربك، والمكتنز بالأسرار والخفايا والألغاز المستعصية على الفهم ناهيك عن الحل.
فنجد الشاعر ـ على امتداد تجربته ـ حريصا على التصاعد فوق عوالم المادة وأثقالها وحبالها القاسية التي تشده نحو الأرض، راغبا في التسامي والارتفاع والتحليق في فضاءات الروح السامقة، طامعا في الوصول إلى الملكوت الأعلى حيث الأضواء السرمدية والأفراح اللانهائية وحيث الغرق في بحار الوجود، ومن ثمّ التوحد مع المطلق والانطفاء والتلاشي في عوالمه الساحرة والغامضة، وهو الانطفاء الذي يعني الولادة والانبثاق والخروج من لحظة الطين إلى لحظة الوجود الحق والكامل، الخالي من عيوب الوجود الأرضي ونواقصه وأمراضه وعلله، وما يخالطه ويشوبه من الآم وهموم وأوصاب!
غير أن تجربة الشاعر في الألواح ـ تحديدا ـ لا تقتصر على البعد الروحي أو الصوفي فحسب، ولا تكتفي بأن تجعله مقابلا للعالم المادي أو الجسدي فقط، في إطار من الثنائية والتواجه والتضاد.. بل تنزع في كثير من الأحيان إلى المزج بين العالمين المتقابلين، وتعمل على أن تصنع بينهما نوعا من التحاور والتمازج في إطار من الجدلية الفاعلة، التي لا تسعى إلى أن تمحو أيا من العنصرين المتضادين لصالح العنصر الآخر، بقدر ما تتغيا أن تحدث بينهما نمطا من أنماط التكامل والانصهار، بحيث تكاد تمحو الحدود الفاصلة بينهما تماما، كي يصبح الروحي ـ هاهنا ـ تجليا من تجليات الجسدي ومعنى من معانيه، كما يغدو الجسدي ـ بدوره ـ شكلا من أشكال الروحي وتمظهرا من تمظهراته في الوجود.. وهو إلغاء للثنائية لصالح نوع من الرؤية الوجودية الواحدية، التي تتوخى صهر العناصر المتباينة والمتباعدة في بوتقة واحدة.. يحتفظ فيها عنصرا التجربة أو القول الشعري الروح والجسد ببعض من خصائصهما ومميزاتهما، ويعبران في الوقت ذاته عن معنى واحد ويستهدفان غاية واحدة.. هي قول الذات الشاعرة وكتابتها، وتعيين موقعها في النص وفي الوجود!
يختار الشاعر لتجربته عنوان الألواح ـ ألواح الكتابة المقدسة تحديدا والمتعالية على كلّ ما هو أرضي.. حيث تحيل لفظة ألواح إلى اللوح المحفوظ في السماوات العلى أولا، حيث مدونة الأقدار والوجود وحيث الكلام الإلهي الأعلى والأسمى الذي لا يدرك كنهه أحد من العالمين.. كما تحيل تاليا إلى الكتب والمدونات السماوية التي كانت صلة الوصل بين الأرض والسماء أو بين الروح والمادة/ الجسد في حقيقة الأمر: ألواح النبي موسى مثلا..
وفي حين لا يتغيا الشاعر محاكاة تلك الألواح أو مجاراتها، إلا أنه يتعمد ـ فيما نرجح ـ استثمار وتوظيف ما تمثله مفردة ألواح وما تكتنز به من معان ودلالات، على النحو الذي يمنح تجربة الشاعر نوعا من التفرد والمغايرة، ويضفي عليها شيئا من ألق الروحي وسحره وغموضه، ويطبع التجربة ـ كذلك ـ بطابع يجسد توق الشاعر ـ أيّ شاعر ـ إلى بلوغ تلك المرتبة الروحية السامقة، حين يكون لكلامه أو قوله الشعري معنى: النبوءة والكشف والحدس والذهاب إلى ما وراء الظواهر والأشياء! تتكون المجموعة من 17 لوحا معنونة ولوحا إضافيا يشك الشاعر ـ الراوي ـ في كونه لوحا من ألواح المجموعة يسميه اللاشيء.. بما يحيل إلى لعبة فنية يوهمنا بها الشاعر بأن ألواح المجموعة ما هي إلا مخطوط أثري قديم تمّ العثور عليه في مكان ما، وتولى الشاعر إبرازه وإظهاره للناس وحسب.. وهو الأمر الذي يؤكد على فكرة التماهي مع الألواح المقدسة التي تحوي العلم الكامل واللانهائي والقديم. يتبع
* شاعر سعودي