الحياة فيها الحزن، والهم، والغم، والكدر، والكرب، والكآبة وفيها غير ذلك، وعكس كل ذلك، ولكن ليس فيها أنها ستتوقف أو ستغير من طريقتها جبرا لخاطر فلان، أو من أجل عيون علان، حياة الإنسان تهمه وحده، وأحيانا تهم المحيطين به
يعد الشاعر أبو الحسن التهامي أحد كبار شعراء العرب، حتى إن المتخصصين في فنه نعتوه بشاعر وقته.. نشأ شاعرنا في الفترة المضطربة للدولة العباسية، وتنقل من (جازان) إلى (مصر) ثم (الشام) ثم (العراق)، وتعرض في حياته لمصاعب كثيرة جدا، وأشعاره مشهود له فيها بالبراعة، وجودة المعاني، له قصيدة مشهورة مطلعها: حكمُ المنيَّةِ في البريَّةِ جار..، يقول فيها عن (الحياة) بيتين رائعين:
طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدها
صفواً من الأقذاءِ والأكدارِ
ومكلِّفُ الأيَّامِ ضدَّ طباعها
متطلِّبٌ في الماءِ جَذوةَ نارِ
الحياة فيها الحزن، والهم، والغم، والكدر، والكرب، والكآبة وفيها غير ذلك، وعكس كل ذلك، ولكن ليس فيها أنها ـ أي الحياة ـ ستتوقف أو ستغير من طريقتها جبرا لخاطر فلان، أو من أجل عيون علان، بل هذا نوع من المستحيلات التي لا يمكن تصور حدوثها.. حياة الإنسان تهمه وحده، وأحيانا أو غالبا تهم المحيطين به، وقيمة الإنسان متوقفة على الدور الذي يمكن له أن يكون قد أحدثه، أو الذي سيحدثه فيها، وهنا لا بد أن يجتهد كل فرد منا في أن يطبق حديث سيد من بعث الآمال في نفوس البشر ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن قامتِ الساعةُ ـ القيامة ـ وفي يد أحدِكم فسيلة ـ نخلة صغيرة ـ، فإن استطاعَ ألا تقوم حتى يغرسَها فليغرسْها.. هذه الدعوة النبوية للإيجابية والخيرية هي مفتاح الطمأنينة في هذه الحياة التي في كل لحظة منها يلد طفل، ويموت آخر، ويلتحق تلميذ بالروضة المدرسية، ويتخرج آخر من الجامعة ليبدأ الحياة العملية، وكأن قافلة الحياة تقول للناس إن مدخلاتي لا تتوقف، ومخرجاتي كذلك، لا محاباة عندي لفقير أو غني، ولا مجاملة عندي لحاكم أو محكوم.. الإحساس بالحياة يختلف من شخص إلى غيره، هناك من يعرف قيمة الحديث الجميل السالف الذكر ـ وكل أحاديثه صلى الله عليه وسلم جميلة ـ، وهناك من تغيب عنه معانيه الدافئة.. الحياة لا يمكن أن تنهيها الأزمات، ولا تستحق منا الركون إلى كوارثها، وإن بلغت أقصى درجات التعب، ومنتهى درجات الضنك.. الحياة بلا أفراح، ومن دون أتراح حياة مملة للغاية، ومتعة الفرح لا تتصور إلا بعد الإصابة بالأسى، مثلها مثل متعة اللقاء بعد الفراق.
الصحافي المصري اللامع مصطفى أمين، له كتاب مشهور اسمه (واحد من عشرة) سجل فيه قصصا لا بأس بها من السنوات العشر الأولى من حياته، التي عايش فيها صراع الشعوب وتحولاتها، يقول في ثناياه: الحياة لا تتوقف أبداً، إنما تتجدد دائماً.. كل شيء فيها يتغير ويتبدل.. البشر يولدون ويموتون، الأبنية تشيد وتنهار، الزهور تتفتح وتتبدل، الدول تقوم وتسقط، كل شيء يتغير، كل شيء يتبدل، إلا معاني بعض الكلمات.. الحرية تبقى دائماً حرية، الطغيان يبقى دائماً طغيانا، العدل يبقى دائماً عدلاً، الظلم يبقى دائما ظلماً، ويجيء العادلون والطغاة ويذهبون، ويظهر أنصار الحرية وأعوان الاستبداد يختفون...
خاتمة:
مر رجل بسيدنا أبي الدرداء ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو يغرس جوزة ـ زرعة ـ، فقال أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، تموت غدا، أو بعد غد، وهذه لا تطعم ـ لا تنبت ـ إلا في كذا وكذا عامًا، فقال: ما عليَّ أن يكون لي أجرُها ويأكل منها غيري.