بعد هزيمة‏ عام 1967، سأل عبدالناصر مساعديه: لماذا وقعت النكسة؟‏‏ فكانت الإجابة الوحيدة التي تلقاها كلمتين هما مؤامرة خارجية‏، فاستراح لها وصدق الجميع أن المؤامرة كانت السبب الوحيد‏، دون التوقف مع الذات بشجاعة فكرية لمناقشة الأسباب الحقيقية.
بعد عقود وفي مشهد مختلف تماما شارك حشد من قادة الدول العالم بالإضافة لخمسين ممثلا لدول أجنبية في مسيرة يوم الأحد الماضي تضامنا مع فرنسا، ومناهضة لعمليات إرهابية تحولت لمأساة تُشكل 11 سبتمبر أوروبية بينما كانت مواقع التواصل الاجتماعي تنشر فيديو لشخص يُعرّف نفسه بأنه أحمدي كوليبالي، أحد منفذي عمليتي احتجاز الرهائن بباريس، وهو يُبايع زعيم تنظيم داعش بعربية ركيكة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأكد مشاركة الأخوين كواشي بعملية شارلي إيبدو والحوادث التي أعقبتها.
بين المشهدين تداعت لمخيلتي مقارنة بغيضة بين ذهنيتين: إحداهما تُعول على المؤامرات، وأخرى بادرت لإعلان وزير العدل الأميركي أن بلاده ستستضيف قمة يوم 18 فبراير لبحث سُبل محاربة التطرف دوليا، بعد صدمة وجودية توقع معها أندرو باركر، رئيس جهاز المخابرات الداخلية البريطانية 5 MI تخطيطا لهجمات إرهابية أخرى بدول أوروبا، وذلك في أعقاب مشاركته بمؤتمر طارئ لوزراء داخلية 12 دولة بالاتحاد الأوروبي في باريس طالب وزير الداخلية الألماني بمزيد من تبادل المعلومات بين أجهزة المخابرات الأوروبية لبحث تداعيات الهجمات الإرهابية الأخيرة بفرنسا.
ويكمن المأزق الغربي في أن الأزمة تتعلق بمواطنين يحملون جنسيات دوله، ويسلط الأضواء على ظاهرة الدواعش الأوروبيين الذين سافروا للقتال بصفوف داعش، فمن بين 11 ألف مقاتل أجنبي هناك 3 آلاف من مواطني الدول الأوروبية، وأغلبيتهم من أصول عربية، حيث تحظى فرنسا وحدها بنحو ألف شخص، وبريطانيا بنحو 600، وألمانيا بعدد مماثل، وهولندا وبلجيكا وغيرها مما دفع الأوروبيين للتحرك على المستويات الأمنية والسياسية لمواجهة الظاهرة، التي اقتحمت عقر دارهم.
بداية الإشكالية تتمثل برفض اندماج المهاجرين المسلمين بالمجتمعات الغربية التي سعوا إليها أو ولدوا فيها، وتتعاظم أزمة صراع الهوية لأسباب مُعقدة، تجعل الأوروبيين مضطرين لمراجعة سلوكهم السياسي حيال قضايا المنطقة، وتساهلهم باستضافة إرهابيين لفظتهم دولهم، وتحولت عواصم الغرب لحاضانات تستخدمهم كأوراق ضغط، لكنهم الآن يواجهون حقائق مُفزعة، لا سيما بعدما تعاظمت ظاهرة الدواعش الأوروبيين مما يُغذي بيئة الإرهاب بأوروبا والشرق الأوسط، حيث يتعلم هؤلاء حروب الشوارع وتصنيع المتفجرات، ليشكلوا قنابل موقوتة لبلدانهم لدى عودتهم، مما دفع السعودية لاستشعار خطرهم وأعلنت بأمر ملكي معاقبة من يذهب للقتال والمشاركة بمناطق الصراع خارج المملكة، الأمر الذي تبنته مصر ودول الخليج.
ثمة خطر آخر يتمثل بالخطابين الديني والإعلامي، فرغم التسليم بوجود مخططات أميركية وأوروبية، باعتبارها ليست منظمات خيرية لكننا كمسلمين ندفع ثمنا فادحا، فصاحب الضمير اليقظ يرفض الركون للقراءات التآمرية ليُعفي نفسه من عناء التفكير، فنقرأ يوميا مقالات صحفية ونشاهد برامج تلفزيونية يبدأها المفكر العربي بتأكيد رفضه لنظرية المؤامرة، لكنه سرعان ما يبدأ برسم مؤامرته الخاصة، فيتحدث صحافيون ودعاة بالفضائيات العربية بثقة المُطّلع ببواطن الأمور عن مخططات تستهدف المسلمين، وترسخ لدى المتلقين ثقافة الكراهية، بل وتذهب لدرجة تسويغ الإرهاب باعتباره السلاح الممكن، لردع ممارسات الغرب المُعادية للإسلام والمسلمين، دونما النظر لعواقب التحريض.
ويمضي هؤلاء لدرجة تبرير الإرهاب، وبهذا المنطق السائد نخبويا وشعبيا نقفز على النتائج، ونتعامى عن الحقائق ولو اتضح أن الجناة يتبعون الظواهري والبغدادي فلا شك أن هناك أجهزة استخبارات دعمتهم، وأنهم ليسوا أكثر من أدوات عمياء للتنفيذ، وهكذا تتفرق الدماء بين القبائل، ويتورط شباب مأزوم بجرائم توشك على وصمنا بأننا أشرار العالم.
المؤسف في سياق نظريات المؤامرة أنها تُظهر دعاة الشعارات الطنانة كوطنيين مُخلصين، ومؤمنين أتقياء، بينما من يحتكم للعقل ويخطط لمجتمعه بحكمة يُتهم بالعمالة وربما التكفير، لينتصر دعاة الغوغائية وتعم الفوضى وسوء التقدير، وتقع الكارثة تلو الأخرى، ولا نتعلم مما جرى وسيجري.