ما معنى أن ينهي الطبيب المتدرب شهرين من العمل في تخصص الأمراض الروماتيزمية مع استشاريين فإذا انتهت فترة التدريب وجدت الطبيب في مستوى علمي مهاري لا يختلف عن مستواه قبل التدريب؟
لم أقحم القارئ الكريم في موضوع تدريب الأطباء المقيمين وهم من تخرج من إحدى كليات الطب ثم انخرط في برامج تدريبية بإشراف الهيئة السعودية للتخصصات الصحية لمدة أربع سنوات أو أكثر ليصبح من بعدها استشارياً؟ هل يستحق الموضوع أن يكتب عنه؟ هل لك أن تستكمل قراءة هذا المقال أم يجب عليك أن تتوقف الآن؟ أزعم أن هذا الموضوع مهم جداً ويعنيك أنت بالذات أيها القارئ الكريم! إن هذا الطبيب الذي سيتخرج ليصبح استشارياً هو الذي سيعالجك! هو الذي سيكتب دواءك! هو الذي سيجري العملية لوالدك! هو الذي سيعالج طفلك! ألا يعنيك كل هؤلاء! كلا وبلا شك إنهم في سويداء قلبك! حفظهم الله لك من كل سوء! إذاً ألا يجدر بك أن تتعرف على مشاكل وعوائق تعتري طرق تدريب هؤلاء الأطباء الذين سيسوق الله على أيديهم ابتسامة الشفاء؟
كتبت في الوطن قبل أكثر من خمس سنوات وتحديداً في العدد 3194 الأحد 28 نوفمبر 2009 مقالاً بعنوان أيتها الهيئة: كفي عن هذا الهراء ومما ذكرته في ذلك المقال أن الهيئة تصر على التعامل مع هذه الفئة الغالية من أطبائنا وطبيباتنا كأنهم طلاب مرحلة ابتدائية وليسوا طلاب علم لمرحلة ما بعد التعليم العالي! إن نيل شهادة الزمالة الطبية في أي تخصص يعادل حسب قرار مجلس الوزراء درجة الدكتوراه! ولكن المتتبع لآلية وفلسفة التدريب اللتين تنتهجهما الهيئة قد لا تؤديان بالضرورة إلى تخريج أطباء أكفاء مقتدرين علمياً ومهارياً.
وقبل الخوض أكثر في النقاش، أود إثبات عدة أمور حتى لا يفهم شيء غير ما أقصد وأعني، إن دور الهيئة في استصدار رخص مزاولة المهن الطبية دور رائد ولا شك - على ما فيه من تعقيدات أحياناً- ولكنه جوهري وحيوي حتى يوقف سيل المتلاعبين بالشهادات العليا المتهاونين بنا وبمجتمعنا والذين يطمحون إلى الدخول غير الشرعي إلى ممارسة هذه المهن الطبية الحساسة، هذا الدور ليس موضع نقاش الآن في هذه العجالة، إن انتقادنا مهما كان قاسياً لدور الهيئة الآخر في الإشراف على برامج التدريب الإكلينيكية إنما هو رغبة في التحسين والتطوير ، فلا يزايد أحد على وطنية أو انتماء وخلافه فكلنا نسعى إلى تميز برامجنا التدريبية وزيادة كفاءتها لأن هذه رسالة وطنية حضارية تنموية ولا شك، بل إن مجرد وجود برامج تدريبية محلية وهيئة عليا تشرف عليها هو علامة رائدة على المضي في ركب تطوير مستوى الرعاية الصحية بأسس أكاديمية. إن ربط جودة التدريب والتعليم بجودة الرعاية الصحية لهو أمر حيوي عالمي وقفت على أهميته أغلب الجامعات والهيئات الأكاديمية العالمية. إن أفضل مخرج تعليمي لقياس جودة التعليم والتدريب الطبي حسب توصيات الأبحاث الحديثة في التعليم الطبي هو قياس كل ما له علاقة بالمرضى من تشخيص مبكر صحيح ووصف علاجي ناجع فعال، بل ونشر وعي صحي وتثقيف المريض ومقاومة ومنع وقوع الأمراض.
ما أريد أن أطرحه لا يتطلب من المرء أن يكون خبيراً في التعليم ليفهمه! إن برامج الهيئة إلى الآن لا تزال تصر على عقد اختبارات نظرية سنوية لكي يتجاوز الطبيب المقيم المتدرب من سنة إلى سنة أخرى! فإذا نجح هذا الطبيب في هذا الاختبار النظري مع ملاحظة أننا نتكلم عن ممارسة عملية لعلم تطبيقي هو علم الطب ولا نتحدث عن كلية علم اجتماع أو فلسفة أديان! أقول: إذا نجح الطبيب أو الطبيبة نظرياً تجاوز هذه السنة إلى السنة التي تليها بدون أن تكون هناك أية مراقبة أو متابعة لكيفية تدرب هذا الطبيب والآلية المتبعة في تقييمه، هناك أوراق صورية يقوم بتعبئتها مشرفو البرامج التدريبية في نهاية كل فترة تدريبية لهؤلاء ولكن ما مدى مصداقية ما يكتب في هذه الأوراق؟
أطرح عدة أسئلة أريد إجابة شافية عليها: لماذا تبلغ نسبة النجاح في الاختبارات النهائية للأطباء المتقدمين من مراكز محددة: صفرا في المئة؟ لماذا يتم التوسع إذاً في الاعتراف ببرامج تدريبية لا تزال غير مؤهلة لتدريب أطباء أكفاء؟ هل تحرص الهيئة على عقد برامج تدريبية واضحة في مهارات التدريب الإكلينيكي ومهارات الفحص السريري لمشرفي البرامج أم فقط تعقد الهيئة دورات في طرق صياغة الأسئلة؟ نعم! حقيقة! لا أسمع من الهيئة إلا عن دورات في طرق صياغة الأسئلة، وهذه على أهميتها إلا أنها تعكس شيئاً عن طريقة تفكير القائمين على الهيئة ألا وهو الهوس بالعملية التقييمية النظرية التقليدية بأسلوب لا يختلف كثيراً عن معلم مرحلة ابتدائية فاشل! ثم هل تحرص الهيئة بطاقمها ولجانها ومن خلفها البرامج التدريبية على أن تتحقق الكفايات العلمية والمهارية في الأطباء بنهاية كل فترة تدرب؟ ما معنى أن ينهي الطبيب المتدرب شهرين كاملين من العمل مثلاً في تخصص الأمراض الروماتيزمية مع استشاريين فإذا انتهى هذان الشهران وجدت الطبيب في مستوى علمي مهاري لا يختلف عن مستواه قبل العمل في هذا التخصص؟ فهو لا يجيد فحص المفاصل ولا يعرف كيف يفرق بين التهاب في المفصل أو في منطقة ما حول المفصل، بل أحيانا لا يجيد حتى أخذ تاريخ مرضي متكامل من مريض يعاني من آلام في المفاصل؟ كيف نسمح لمثل هذا التسيب أن يحدث؟ ألا تملك الهيئة المال الكافي لعقد الخطط التطويرية التحديثية؟ أين تذهب عشرات الآلاف من الريالات التي يدفعها المتدربون كرسوم تسجيل بشكل سنوي؟ وما أعلمه أن هذه الرسوم في ازدياد وأعداد المتدربين في ازدياد، أكتفي بهذا ولا أزيد في هذا الموضوع!
والأمر الآخر المثير والمحير الذي حقيقة يثير الشفقة هو حال الاختبارات النهائية في الطب الباطني التي لا زالت إلى يومنا هذا تعتمد على الحالة الطويلة، هذا الأسلوب الذي أثبت عدم مصداقيته وعدم فاعليته في أبحاث يطول المجال في عرضها ويعرفها المهتمون بالتعليم الطبي، مرة أخرى.. غير أنه الهوس الفظيع بالتقييم التقليدي، فالهيئة لا تقتنع بالحديث الجديد عن أساليب التقييم المنصفة الفعالة ولا تزال مصرة على السير عكس التيار العالمي الذي تخلص من تخلف اختبار الحالة الطويلة في تقييم الأطباء. هناك عدة مثالب في هذا الأسلوب، فالحالات المعروضة للاختبار متعددة ومختلفة بشكل كبير متفاوت، فقد تأتي حالة سهلة لطبيب جيد أو حالة صعبة لطبيب ضعيف، ثم إن الممتحنين تتفاوت أسئلتهم فكل يسأل على مزاجه بلا أي تنظيم، فعندما يرسب طبيب أو طبيبة في أحد هذه الاختبارات السيئة غير المقننة وغير الموحدة فمن تلوم؟ وإذا تكرر رسوب أحدهم أو إحداهن فهل هي حقيقة مشكلته أم مشكلة طريقة اختبار أم إنها مشكلة أكبر: مشكلة نظام بأكمله؟ ألا يمثل من رسب طاقة وطنية صرفت عليه الدولة الكثير حتى يتخرج كفؤاً متمكناً فإذا بنا نعبث به وبنفسيته ولا نورثه إلا الاكتئاب والعقد النفسية؟
في رأيكم ألا يجب أن تكف الهيئة عن هذا الهراء؟ ألا توجد أية هيئة أخرى أعلى من الحالية تراقب عملها وتتأكد من أدائها؟