أيا تكن المسائل الفقهية التي حولها خلاف، فإنه كان من المشهور، ألا تصل الأمور إلى هذه الحدية، الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى الأوساط الدينية بأنها أوساط فيها من العصبية في الخلاف أكثر مما فيها من التوافق
الخلاف في الرأي الفقهي حول قضية الحجاب قديم ومعروف لدى كافة الأوساط العلمية والدينية في التراث، وأيضا في العصر الحاضر، وعليه تعتمد بعض المجتمعات العربية في نظرتها لتغطية الوجه أو كشفه. شخصيا لست مخولا بالانحياز لرأي فقهي على آخر، كونه خاصا في القضايا الدينية، ومن المهم عند الباحثين المعاصرين، التمييز بين حقول المجال، كما يراه بعض علماء الاجتماع، فحقل المجال الثقافي يختلف عن حقل المجال الديني، والعكس صحيح أيضا، وما يهمني في هذه المسألة ليس الخلاف الفقهي، وإنما الجانب الثقافي منها.
وحينما خرج الغامدي برأيه، فإنه لم يكن رأيا جديدا؛ بل سبقه عليه آخرون، وأقروا بالخلاف الوارد فيه، كونه من أشهر مواطن الاختلاف في الفقه الإسلامي طيلة قرون، والأدلة فيه معتبرة عند كافة الأطراف، وفي داخل السعودية كان رأي الشيخ الألباني بجواز الكشف، قبل الغامدي، بحوالي أكثر من أربعين عاما، وكان الجدل فيه معروفا في وقته في الأوساط العلمية والدينية؛ خاصة أنه أحد أهم الأسماء السلفية المعتبرة، ومن أهم مُصنّفِي الحديث النبوي في العصر الحديث؛ بل هو الأشهر على الإطلاق، لذلك كان رأيه في هذه القضية مقلقا لدى الخطاب الديني في أيامه، لكن مرت تلك الفترة الإشكالية، وانتهت لكونها لم تتعد الأوساط العلمية. عايض القرني مع المخرجة هيفاء المنصور قال إن كشف الوجه قضية خلافية أيضا قبل الغامدي، وتراجع بسرعة عندما بدأ الجدل حول مقولته، وسرعان ما انطفأ وهج الجدل بعد ذلك.
الجديد في قضية الغامدي ثلاثة أمور: الأول: أن المسألة خرجت من الدوائر العلمية الدينية إلى الشارع، وأصبحت قضية رأي عام، بعد ما كان الخلاف محصورا داخل الدروس العلمية، فالخلاف من (المظنون به على أهله) كما هي لغة الأصوليين، إذ كان معهودا تغييب العلم الشرعي الخلافي عن العامة، وحصره في المجالات العلمية دون غيرها، وما يُنشر على الناس هو الرأي المرجوح، أو الذي رجّحه الكثير ممن يراعون مصالح العباد والبلاد، معتمدين على قاعدة اختلاف الزمان والمكان. الأمر الثاني: أن الرجل كان رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة سابقا، والهيئة جهة تنفيذية توجيهية ضبطية، وليست جهة تشريعية، ما يعني أنها غير مخولة لبحث قضايا مثل الحجاب، كما أنها أحد أكثر الجهات حساسية وصدامية مع الناس، وأكثر مشاكلها حول قضايا المرأة، وخروج الغامدي من هذه الجهة بالتحديد كان يقوّض هذه الامتثالية التي يجب أن تكون عليها هذه الجهة في التفكير الديني؛ بل والعرف الاجتماعي أيضا. الأمر الثالث: أن الغامدي زاوَجَ بين الرأي والعمل، وخرج على الناس، في برنامج بدرية البشر التلفزيوني مع زوجته كاشفة، وهو عمل لم يُسبق عليه من قبل عند القائلين بجواز الكشف، بمن فيهم الألباني، فالغامدي كسر ثنائية القول والفعل، أو النظرية والتطبيق، مما نقل المسألة إلى حيز الفعل الذي يمكن أن ينتشر اجتماعيا أكثر من حيز الرأي المحصور في الدوائر العلمية.
انقسم عدد من المشايخ في السعودية حول هذه الحادثة بين مؤيد ومعارض أو بالأصح، انقسموا حول أحقية الاختلاف بين مقبول ومرفوض، فأرجع عيسى الغيث وعادل الكلباني القضية إلى موضوع خلافي، واتفقا على أهمية عدم قذف المخالفين في الرأي (راجع صحيفة الوطن: 17/12/2014)، كما شدد صالح المغامسي على التفريق بين الحجاب وتغطية الوجه، ورأى وجوب الأول، وقبول الاختلاف حول الثاني، إضافة إلى بعض التغريدات لدى الشريف حاتم العوني التي قالت بأحقية الاختلاف في الكشف أو التغطية.
في المقابل وقف مشايخ آخرون على الضد من ذلك، إذ طالب عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح اللحيدان في فيديو حول هذه الحادثة ونشرته كثير من الصحف الإلكترونية بتأديب الغامدي، منكرا عليه عمله، كما علق عبدالعزيز الطريفي على ظهور الغامدي مع زوجته على الشاشة قائلا: إذا رأيت من يتتبع مسائل الخلاف ليُحلّل ما يمكن تحليله باسم البحث عن الحق، ولا تجده يغار على انتهاك المحرمات القطعية فهو صاحب هوى (موقع مفكرة الإسلام 15 ديسمبر 2014)، كما حصل جدال طويل بين الغامدي ومحمد النجيمي وسليمان الدويش في برنامج (حراك) للإعلامي عبدالعزيز القاسم في قناة (فور شباب) حول رفض الاختلاف، مع كثير من الضرب تحت الحزام، وكيل التهم بين أطراف الحوار.
حصل مثل هذا الانقسام في الأوساط الدينية، ومنها إلى المجتمع السعودي ككل، حينما خرج الكلباني برأيه في جواز الغناء، حيث كانت الأمور شبيهة بما حصلت مع الغامدي، وأيا تكن المسائل الفقهية التي يكون حولها خلاف طويل، فإنه كان من المشهور، كما درسونا، ألا تصل الأمور إلى هذه الحدية التي رأيناها مع عدد من المشايخ والدعاة الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى الأوساط الدينية بأنها أوساط فيها من العصبية في الخلاف أكثر مما فيها من التوافق، وربما دخلت بعض الأمور الشخصية أكثر من الأمور العلمية، كما تدخل بعض المصالح الحزبية داخل التيارات الدينية، مما يؤثر في الآراء الدينية نفسها، فهو أقرب إلى العمل الأيديولوجي أكثر من كونه عملا فقهيا علميا بحتا، كما يدخل التشكيك في النوايا، أو دخول فكرة المؤامرة في كثير من المرات على المجتمع من خلال البحث في القضايا الدينية المسكوت عنها مع أنها لا تصل إلى ذلك، ولعلي لا أبالغ، إذا قلت: إن العصبية الإقليمية، أيضا تدخل أحياناً في مثل هذه الأمور، فالانقسام المشيخي ليس له شكل محدد، وغالبا ما يخرج عن الإطار العلمي إلى أطر أخرى، فالتاريخ والواقع والجغرافيا والشخصية المشيخية تعمل عملها في تأطير كثير من الفتاوى تأييدا أو رفضا، حتى في العصور القديمة، أكثر من الحقل الديني أو العلمي الذي تنتمي إليه.