أتساءل: حتى متى يظن البعض أننا سنظل التلاميذ المطيعين الذين يخافون سطوة تكفيرهم ولعنهم؛ فننغلق في وسط عالم مفتوح وإنترنت وكتب معروضة وبرامج تخبرك بدرجة الحديث وسنده

ما زلت رغم كل هذه السنوات أسمع صوت معلمة الدين وهي ترفع صوتها باتجاهي غاضبة: عزة انتبهي معي، أنت لست معنا، لكن في الحقيقة أني كنت معها بطريقتي التي لا يتفق معي فيها أحد، وأستطيع ذكرها هنا.
في الواقع، إن بعض معلمي الدين وأساتذته كانوا يخبرونني بنصف الحقيقة ويتوقفون، ولا أعلم لم كان ذلك يدفعني للمضي بعيداً جداً مع عقلي بحثاً عن الشيء الذي لم يذكر من القصة أو الموقف لتكتمل الصورة لدي.
من تلك الحقائق الناقصة - مثلاً - قصة اعتزال واصل بن عطاء، ففي معرض درس تحذيري من مذهب المعتزلة حكت المعلمة قصة التلميذ المشاغب الذي أراد أن يفكر وحده وظن أنه يملك أن يصنع منهجاً مختلفاً عن شيخه؛ فقام في منتصف درس الحسن البصري - رضي الله عنه - عن مرتكب الكبيرة وقال: أما أنا فأرى أنه في منزلة بين المنزلتين.. ولمّا لم يعجب أحد ما رأى قام واتخذ لنفسه مكاناً قصيّاً ليقول شيخه كلمته الشهيرة التي اتخذ مذهب المعتزلة منها اسمهم: اعتزلنا واصل.
لِمَ لم يتوعده الحسن أو يكفره حتى؟ كيف تُرك ينشئ مذهبه في زاوية من زوايا مسجد شيخه الذي اكتفى بمناظرته علميّاً؟ وقطعاً لم يطالب الخليفة بتأديبه! لِمَ معلمتي ترى أن واصل قليل التهذيب وهي تطلب دائماً سماع آرائنا؟ لِمَ لم يخشَ واصل قتله أو طرده ونفيه وأخشى أنا أن أطرح سؤالاً بسيطاً لأنني مهددة بالطرد من رحمة المجتمع الذي يدعي كله أنه يحب الصالحين وليس منهم؟
العام الماضي خرج عشرات الطلاب من محاضرة ألقاها أحد المفكرين، لأنه اتهم الحضارة الإسلامية بأنها لم يكن لها تأثير على التراث العالمي، فكرت لحظتها أن هؤلاء الشباب الفخورين بأمتهم ربما كانوا أنفسهم الذين نراهم في تويتر يلعنون الشيعة، ويعادون الأشاعرة وأبو حامد الغزالي منهم، ويرجمون المعتزلة والزمخشري وابن جني منهم وكذلك معظم من جمع بين التفسير والطب والجراحة من فخر الحضارة الإسلامية متهمون بأنهم باطنية ومعتزلة مثل ابن سينا وابن النفيس.
لِمَ نكره الفنون ونعتز بالأندلس، بل نتباكى عليها وحضارة الأندلس المتمثلة في قصورها وأشعارها وآدابها وفكر رجالها مرفوض منهم؟ هـل لو بقيت الأندلس لحمل كل رجل منهم فأسه وحطم تماثيل الأسود في قصر الحمراء مثلاً؟!
هذا العام ودموع نساء النصارى تغرق وجوههن وهن يخرجن من الموصل مطرودات منفيات، هذا العام واليزيديات يقال إنهن تعرضن للسبي - قفز إلى ذهني ألف سؤال:
متى رفض الإسلام وجود هؤلاء وهو له 1400 عام؟ كيف قبلهم أسلافنا وصانوا حياتهم ونرفضهم نحن؟ بل كيف بقي كل هؤلاء الهندوس في الهند، ونحن ملكناها مئات السنين لولا أن هذا الدين حافظ عليهم ومنع قتلهم بحجة الدين؟
لم يقنعنا أساتذتنا بالقراءة لابن قيم الجوزية ويحذروننا من ابن الجوزي، وعندما نقول: لم؟ يهزون رؤوسهم دون أن تنظر أعينهم في أعيننا ويقولون: حفظاً لدينكم؛ فيقفز إلى ذهني سؤال سيئ السمعة: لِمَ لم يرد عليه أحد برد منطقي واكتفوا بتحذيرات مبهمة خجلة عن أيديولوجيا تخاف الأسئلة؟
لِمَ لم يعتنوا بنقد المتن واكتفوا بنقد السند؟
هل لو فعلوا لتغير الحال الآن ولم نعانِ الفتاوى المضحكات في زمن المبكيات؟
في تويتر كتبت شيئاً عن قيادة السيارة؛ فردت من ادعت معرفتي بجملة توحي بأني كنت مهتدية، وظللت أتساءل الآن وأنا أتذكر هذا: من أعطى هؤلاء حق تصنيفك وعشرات النصوص تحذر من امتحان عقائد الآخرين؟ هل اخترع الناس ديناً يخصهم ليس فيه شيء ممّا علمهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -؟
أتساءل: حتى متى يظن البعض أننا سنظل التلاميذ المطيعين الذين يخافون سطوة تكفيرهم ولعنهم؛ فننغلق في وسط عالم مفتوح وإنترنت وكتب معروضة وبرامج تخبرك بدرجة الحديث وسنده وتقربك من سيرته صلى الله عليه وسلم.
هذا الجيل سيطرح أسئلته ورأيه، وعلى من تزعموا المشهد أن يستعدوا للإجابة المقنعة المنطقية، وإلا فهذه الحرب حرب خاسرة؛ تلك التي يخوضها المتعصبون اليوم لتجهيلنا بديننا وتراثنا، فلم يعد الميدان لهم وحدهم وبقاؤهم فيها مرهون بقدرتهم على إثبات قوة حجتهم لا بوعيدهم وتهديدهم.