جل الفضائيات الآن تسعى دائما إلى الإثارة على حساب التربية والوعي خاصة بعد اتساع رقعة القنوات الخاصة، فأصبح رأس المال يشكل خطورة على الوعي الفردي والجمعي
لعل لفظ المسطبة يبدو مستغربا على الأذن سوى في مصر. ولكن معجم المعاني يقول: مسْطبةٌ؛ مكان ممهد مرتفع قليلا يُقعد عليه:- جلس على المسطبة، وهي في بلادنا تسمى المتاكي وتطور اسمها فأصبحت باطرما في عصرنا الحديث.
وبما أننا فهمنا معناها فعلينا أن نتخيل ما يدور على هذه المتاكي أو المساطب من حديث في ساعات السمر أو المناسبات. بما نسميه بـالحكي عن رواية حدث أو سلسلة من الأحداث، وقد يكون موضوعا عن أحداث واقعية أو واقعية ممزوجة ببعض الخيال، وقد تكون موضوعها كله مغامرات خيالية، لكننا لا يمكن أن نتخيل ذلك في جل الحوارات الفضائية!
الإعلام يا سادة هو القوة الناعمة، والمقابلة للقوة الصلبة الجيوش، هكذا عهدناه في صنع الأمم وتاريخ الحضارات. فالرجل كلمة، والمرأة حكمة وبين الكلمة والحكمة يصنع التاريخ. فأي تاريخ يصنع على ثرثرة المساطب في إعلامنا!
ولعل ثرثرة المساطب والمتاكي في ليالي السمر تنفس عن رجال وعن نساء خلدوا إلى الراحة من عناء يوم طويل أو كدح يوم أناخ على كواهلهم، فتكون وظيفة الثرثرة هي ما أسموه في علم النفس بـالإفضاء بمعنى التخلص من الهموم بتنفيض الذات من غبار الصحراء والحقول وعادم السيارات إلخ.. كل ذلك مقبول، ولكن من غير المقبول أن تستبدل المساطب بالقنوات! اللهم تغيير مسمى، كتسمية المتاكى بالباطرما على سبيل المثال!
من غير المنطقي ومن غير المعقول أن تشتغل جل القنوات الإعلامية ـ بل وتتنافس في تجاذب الضيوف ـ على برامج الحوارات وما يطلق عليه توك شو.
لا بد أن نعلم يا سادة ويا محترفي الإعلام الفرق بين علم الإفضاء والتخلص من غثاء النفس، وبين حوارات هادفة تتكئ على شخصيات لها ثقل اجتماعي وعلمي وثقافي، ثم تأتي في الدرجة الثانية الاهتمام بالمعد، كي نخرج يا سادة بجملة مفيدة.
فما الذي يحدث للإعلام العربي والإعلاميين؟، ومن الذي يخطط الهندسة المعمارية لهذه القنوات؟
شيء عجيب وغريب أن تجد كل من لاح في الأفق سعينا لاستضافته، وإهدار ساعات باهظة التكاليف في حديث يجب أن تسمعه وبجوارك علبة الإسبرين! هل هو ملء للفراغ الإعلامي؟، أم ضحالة فكرية غير محدودة؟، أم اللعب بالعقول حسب نظرية شيللر؟!
ويزيد من صداع الثرثرة أن المُحاور غير متخصص أو قل على غير دراية بموضوع البرنامج وبعنوان الحلقة، فيتكشف الجهل وتسقط الأقنعة! هذا إن كانت برامج ثقافية أو سياسية، أما باقي البرامج فجلها طبيخ وتجميل ومسلسلات تركية تبيح كل المحظورات وتدمر الأجيال!
إنما نختص في هذا المقام اللقاءات والحوارات التي هي عود الثقاب في دهاليز الشخصية والفكر.
فالحوار وسيلة من وسائل الاتصال بين الناس، بحيث يتعاون المتحاورون على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، ليكشف كل طرف منهم ما خفي على صاحبه منها، ويكون بأسلوب حضاري يتم من خلاله طرح موضوع فكري غير مسبوق لنصل به إلى النضج الفكري الحواري الحضاري.
ومن هنا يتعرف المشاهد على الجوانب الخفية عن الموضوع المطروح بوعي معرفي. هذه هي سمة الحوارات الثقافية والسياسية والاجتماعية وحتى العلمية، كما يختلف كثيرا عن حديث المساطب، وجلسات السمر والمؤانسة. فالأول يبحث في موضوع معرفي يثري الوعي الجمعي، ويزيل غلالة الجهالة بأي موضوع كان، أما الثاني فهو موضوع نفسي حشاشته الإفضاء، كي يتخلص المتحدث من تراكم الضغط على منطقة اللاوعي.
الفرق بينهما شاسع، إذ إن الأول مقصده الوعي الجمعي، أما الثاني فمقصده المتحدث نفسه، كي يتخلص من همومه وأعباء حياته. فهل تحولت القنوات إلى عيادات نفسية؟!
ومما لا شك فيه أن جل القنوات في وقتنا هذا تسعى دائما إلى الإثارة على حساب التربية والوعي!، خاصة بعد اتساع رقعة القنوات الخاصة، فأصبح رأس المال يشكل خطورة على الوعي الفردي والجمعي. إننا أصبحنا نرى تلك الثرثرة تتحول إلى مشاجرة ثم الاشتباك بالأيدي وما إلى ذلك، إضافة إلى نشر العنف والقتل والدماء. وفي هذا يقول هربرت شيللر في كتابة التلاعب بالعقول: يبرر المسيطرون على وسائل الإعلام ما تحفل به برامج التلفزيون من جرائم قتل تعرض كل يوم بالعشرات بالقول: إنهم يقدمون للناس ما يحبونه، ثم يقولون بلا مبالاة: إن الطبيعة الإنسانية تتطلب للأسف ثماني عشرة ساعة من الإيذاء والقتل. وتلقى كتابات تفسير النزوع الإنساني للعدوان والنهب برده إلى السلوك الحيواني سوقا شديدة الرواج. وهذا هو نتاج تدخل رأس المال في الإعلام. ثم يقول في موضع آخر: عند وقوع أزمة فعلية أو كاذبة أو مفتعلة ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماما عن المعقولية، يؤدي إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة المترتب على الإصرار على فورية المتابعة، كما يؤدي إلى النفخ في أهمية الموضوع، ومن ثم تكون الخطوة التالية هي إفراغه من أهميته ونتيجة لذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية، أقلها مهم وأكثرها لا أهمية له، وبدلا من أن يساعد الإعلام في تركيز الإدراك وبلورة المعنى نجده يسفر عن الإقرار الضمني اللاشعوري بعدم القدرة على التعامل مع موجات الأحداث المتلاحقة التي تطرق بإلحاح على وعي الناس، فيتعين عليه دفاعا عن النفس أن يخفض درجة حساسيته واهتمامه، فتكنولوجيا الاتصال باستخداماتها الحالية تروج لتوجهات بلا تاريخ فيها توجهات مضادة للمعرفة.
وذلك هو لب القضية، تعميم وثرثرة، وعنف وقتل والهدف الأساس هو تغييب الوجدان الجمعي وتضليله كما يقول شيللر: أمام الضغط الإعلامي لا يجد الجمهور فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدم إليه الوعي جاهزا، ولكنه وعي مبرمج ومُعَد مسبقا باتجاه واحد مرسوم!