هناك أشخاص يمرون في حياتك وتنطبع صورتهم في الذاكرة.. والمدرسون في طليعتهم، وأهم المدرسين هو من امتلك قلوب طلابه بعلمه وخلقه، فاستحوذ على حواسهم خلال دروسه وخارجها، لتصبح صورته منقوشة في الذاكرة. أما إن كان المدرس من أعلام المدينة أو الدولة فالعلاقة بينه وبين طلابه تأخذ طابعاً أكثر حميمية وألفة، والطالب العاشق للمعرفة يعرف أن أمامه بحراً عليه الاستفاضة في تلقي العلوم منه، فالزمن لن يتكرر.. وقليل عدد المدرسين الذين تفتخر بأنك كنت من طلابهم بعد أن تمر عقود.
حمصي فرحان الحمادة، أديب وعالم ومؤرخ من أعلام مدينة الرقة السورية، تلك المدينة التي عشق تراثها وحجارتها وأهلها ونهرها ومنابرها.. ولم ينس مأثوراتها الشعبية التي وثقها بإصدار متميز.. وهو أيضاً مدرس لكنه ليس كالآخرين، وأذكر أني قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد، درست على يديه مادة التربية الإسلامية في ثانوية الرشيد بالرقة، ومثلي درس كثير من أبنائها على مر السنوات.. لم يكن أستاذاً لنا آنذاك فقط، بل كان أباً وأخاً وصديقاً، اقترب من قلوبنا كلنا حتى تماهى فيها بخلقه الرفيع وأسلوبه الفريد في التدريس.
لم يرفع الحمادة صوته قطّ في وجه طالب، وكان يخجلنا بنظرة أو ابتسامة صامتة لو قصر أحدنا.. هو شخص جمع المتضادات في لغته الراقية، فحديثه سحر، وصمته سحر.
تفارقنا مطلع الثمانينات من القرن الماضي يوم ذهبت إلى حلب للدراسة الجامعية، واغترب هو خارج الوطن.. ولم نلتق بعدها سوى مرة واحدة على عجل في التسعينات.. لكن صورته ظلت راسخة في الأعماق مع قليل غيره من أصحاب البصمات على أجيال المدينة.
المفارقة أنه أرسل لي الأسبوع الماضي طلب صداقة على الـفيس بوك، فقبلت وبدأت أكتب لأشكره وأرحب به، وإن هي إلا لحظات حتى تفاجأت برسالة منه يقول فيها: (أسعدني وشرفني قبول صداقتي.. بارك الله بك تحياتي لك).
لم يكن أمامي إلا أن أعلن للجميع عبر صفحتي أن أستاذي لم يغلبني فقط بأن طلب الصداقة أولاً بل أتبعها برسالة شكر.. وكتبت حينها بعض ما ورد أعلاه.
لقد أعطى أبو حازم الرقي درساً في تواضع الكبار، ولأني قريب منه روحاً، بعيد عنه جسداً وتفصلنا آلاف الكيلومترات.. ومساحات محفوفة بالحرب والقتل والدمار.. لم يكن أمامي سوى أن ألتقيه هنا، عبر مقال وكلمات ملؤها المحبة من طالب لأستاذه الذي لم يبخل عليه بالعلم، وكان تحفيزه له من أهم عوامل اندفاعه إلى عالم الأدب والكتابة.