وطننا بحاجة ماسة إلى تماسك جبهته الداخلية، وأي اختلال تقوم به وسائل الإعلام -عمدا أو بغير عمد- يرتد سلبا على مجتمعنا ونحن بمسيس الحاجة لأن نجتمع لا أن نفترق في ظروف سياسية حساسة

كنت أردد ما الفرق بين الرأي في مسألة شرعية وبين الفتوى؟ وقتما أجابني الشيخ أحمد قاسم الغامدي بأن ما يقوله لا يدخل ضمن التوجيه الملكي بحصر الفتوى في العلماء.
المدير العام السابق لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة هو حديث الساحة السعودية اليوم، وما قال به حول كشف وجه المرأة، وخطوته بإظهار زوجته في فضائية (mbc) مدار حديث الطبقات والشرائح الاجتماعية في بلادنا، وبين التأييد العارم له من قبل زملائنا الكتاب في الصحافة والتهليل له، وبين المعارضة الشديدة التي وصلت في حدتها إلى رميه بأوصاف لا تليق بمسلم، في معارضة للهدي النبوي في الخلاف؛ ليضيع صوت العقلاء في هذه المعمعة السجالية الكبرى التي تخترم الساحة الشرعية والفكرية من أقصاها لأقصاها.
حاولت – كواجب مهني إعلامي- أن أقوم بدور إيجابي في هذه القضية الشرعية المختلف عليها بعد أن انفجرت؛ لتبيان الحق للمجتمع، ولتهدئة النفوس المتشنجة، وألححت على طلبة علم فضلاء يمثلون المدرسة السلفية التي عليها هيئة كبار العلماء وبلادنا، للمشاركة والإدلاء برأيهم في قضية شغلت المجتمع بأكمله، بيد أنهم اعتذروا لأسبابهم، ووقتما طلبت الشيخ أحمد قاسم الغامدي بادر بالموافقة، وعاتبني بعض أشياخي وأساتذتي لاحقا، ولم يدروا بأنني بذلت المحاولات واستنفدت الجهد، ولم يرغب طلبة العلم الذين رشحوهم أن يشاركوا، والإعلام ساحة لها أصولها ومهنيتها، وليس صحيحا دفن الرأس في التراب، فغيرك يملك من المنابر الإعلامية التي هي أقوى ألف مرة من منبرك المحدود، وإن لم تزاحم وتعمل بأصول مهنية، فغيرك يسبقك ولا يخلف إلا غباره لك لتختنق فيه وتغصّ، فلا مجال للعتاب إلا لتأخر ووجل طلبة العلم العاتبين بالمشاركة.
برأيي الخاص أن مكان مناقشة أمثال هذه المسائل الشرعية هي قاعات الجامعات الشرعية، والمجامع الفقهية، حيث يتصدى المتخصصون الحقيقيون لتفكيك هاته المسائل الشرعية التي تحتاج علماء، بيد أنك اليوم لا تملك ترف الخيار والتحكم بما كنته في حقب ماضيات، ومسألة كشف وجه المرأة وتغطيته قديمة جدا، وإثارتها اليوم تدخل في سلسلة المراجعات النقدية التي بدأت تطفو من بعد 11 سبتمبر في ساحتنا الإعلامية لكثير من الفقه السائد في مجتمعنا، وكان العلماء سابقا يستطيعون التأثير في قرار عدم مناقشتها وغيرها، وقتما كانت وسائل الإعلام محدودة. بيد أن الأمور تغيرت اليوم أمام توافر مئات الأقنية الفضائية التي تطرح كل القضايا بكل جرأة وصراحة وحرية.
بل أذهب إلى أبعد من ذلك؛ فهناك منابر إعلامية واسعة التأثير تتبنى أمثال هذه الأطروحات وأصحابها، كي تحدث هذه الهزات المجتمعية التي نعيشها اليوم، ليسود في مجتمعنا ما يرونه من عادات جديدة، كثير منها مخالف وما نشأنا عليه بحجة مواكبة العصر والعالم، وطريقة أحبتي الدعاة القديمة بالمنع ورفع العقائر بالاحتجاج لم تعد تجدي نفعا، فإن لم تبادر وتزاحم وتطرح رؤيتك بأصول المهنة الإعلامية الاحترافية، فغيرك -ممن يملك أدوات الاحترافية الإعلامية- سيطرحها ويؤثر في شرائح المجتمع، فيما تلوك الحسرة وترفع الصوت بالدعاء، والقوم أودوا بالإبل.
أرى أن معظم ما يطرحه الشيخ الغامدي وغيره هي مسائل شرعية موجودة أشبعت نقاشا في كتب الفقهاء، وعلى فترات زمانية متعددة، ولا جديد فيها إلا تعمّد مخالفة الفقه السائد لدينا من قرون، وربما أميل معه في بعضها وأختلف مع البعض الآخر، ولكن السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه: لماذا جدل الحجاب الآن، ومن المستفيد، ولصالح من هذه البلبلة؟ وسماحة مفتي عام المملكة - في رسالته الأبوية للغامدي- نصحه ومن ساعده بالتوبة.
مؤسف أن ننشغل بفتوى مختلف عليها يقوم المجتمع من أقصاه لأقصاه لها، فيما مدرعات رجال أمننا تجوب العوامية قبل أمس لتفكك خلايا الإرهاب هناك، ويتعرض هؤلاء البواسل بصدورهم لنيران الإرهابيين الجبناء؛ كي يحفظوا لنا استقرارنا ونسيجنا الداخلي، وننعم بالأمن والأمان ورغد العيش الذي أفاء الله به على بلادنا، وكان المفترض بالمجتمع أن يتحد خلفهم، ويتابع ما يفعلون ويدعوا لهم، ويحتفي لا أن يخوض في فتوى مكرورة، تمزق نسيجنا الاجتماعي .
هي همسة لأولئك الذين يقودون هذا الحراك الحاد والتغيير القسري، من إعلاميين وشخصيات، ويؤججون المجتمع بحجة تغيير أنماط الحياة الاجتماعية التي تحتاج في نظرهم إلى انقلاب من الجذور بالكامل، ككلفة مستحقة لانخراطنا في أتون الحداثة والمعاصرة: وطننا بحاجة ماسة إلى تماسك جبهته الداخلية، وأي اختلال تقوم به وسائل الإعلام -عمدا أو بغير عمد- يرتد سلبا على مجتمعنا الذي نحن بمسيس الحاجة لأن نجتمع لا أن نفترق في ظروف سياسية حساسة ومعقدة تمور مورا من حولنا، ونشعر بهزاتها تحت أقدامنا.
بلادنا تحتاج منا أن نكون على قلب واحد، وبعض الفتاوى المجتمعية التي تحدث صخبا وفرقة، تدخل المجتمع في أتون عاصفة من الخلاف غير الصحي الذي يرتد سلبا بما نعيشه اليوم، وتكون ردات الفعل قاسية من قبل بعض الشباب أو الشخصيات التي لا ترعوي وتنسلك ضمن الأدب النبوي في الخلاف مع الآخر، حيث فجور الخصومة للأسف الشديد، ومليكنا -يحفظه الله- استبق هذا كله، ووجّه بعدم الفتيا إلا للعلماء المعتمدين.
الوطني الحقيقي يلمّ بكل الزوايا ويتبصّر، لا أن يسهم بحرق المراحل وخرق السفينة التي نحن جميعا في متنها.