ليس مطلوباً منا أن نكون أثرياء وأصحاب حسابات سرية في سويسرا حتى نصنع الفرق في حياة الآخرين، فهناك من يستطيع التبرع بمبلغ جيد من ماله زكاة أو صدقة، وآخرون سيتبرعون بأعضائهم
لن أنسى أبداً رحلة الخطوط السعودية التي نقلتني قبل ثلاث سنوات إلى جدة.. كانت ربما أطول رحلة تمر علي، ليس لأن أمراً غير اعتيادي قد حصل فيما يتعلق بالرحلة نفسها جعلها تطول عن الرحلات السابقة، وإنما لأني ذهني المشغول وقلبي الراجف كانا يحسبان الدقائق حتى موعد الوصول بصبر نافذ، لأنه هناك في جدة.. كانت أعز امرأة على قلبي ترقد على السرير الأبيض بعد أن أجرت فجأة عملية دقيقة لزراعة الكلى. ولعل أحد أسباب قلقي الشديد وقتها هو أن كل ذلك لم يكن مخططاً له، وبالتالي لم أكن مستعدة نفسياً، أعني كانت على لائحة الانتظار طويلاً، وكنا نعرف أنه إذا لم تتوافر لها كلية في الأشهر القليلة المقبلة، فإنها يجب أن تبدأ رحلة الغسيل المؤلمة، فجاءت الكلية بفضل الله في وقتها. فالمشكلة في هذا المرض أنه لا أحد يعرف متى ستتوفر كلية مطابقة، أو ما إذا كانت ستتوفر أصلاً، ولهذا يعيش مرضى الفشل الكلوي أيامهم بين الخوف والرجاء، متشبثين ببصيص الأمل. فإذا أضفنا فوق ذلك قلقهم بشأن التكاليف الصحية، فلا شك في أنهم يحملون هماً عظيماً، فهل نتركهم يحملونه وحدهم؟
الكِلية هي أحد أهم الأعضاء الحيوية في أجسادنا، فهي مسؤولة عن تنقية الدم من الأملاح والسموم الضارة بالجسم بحيث تعمل على طردها خارجه، والإنسان تكفيه كلية واحدة لتؤدي هذه المهمة العظيمة، ولكن لشدة أهميتها فقد منحنا الله كليتين، بحيث إن عطبت إحداهما، فالأخرى قادرة وحدها على القيام بالعمل على أكمل وجه، ولكن إن فشلتا معاً، فهذا يعني أنه لا بد من القيام بمهمتها في غسيل الدم بوسيلة خارجية، وبالتالي يتم إجراء عملية غسيل دموية صناعية في العيادات، وبدون ذلك أو بدون كلية بديلة متبرعة، فإن السموم والسوائل ستتراكم، مما يؤثر سلباً على بقية أعضاء الجسم، وستأخذ صحة المريض العامة في التدهور بشكل تدريجي، وهو ما قد يؤدي - لا قدر الله- إلى القضاء على حياة هذا المريض.
في المملكة وفقاً لجمعية كِلانا السعودية لرعاية مرضى الفشل الكلوي أكثر من 11 ألف مريض مع زيادة سنوية تصل إلى 9?، والكثير من هؤلاء المرضى غير قادرين على تحمل نفقات الغسيل الدموي، أو تكلفة الأدوية، أو حتى تكلفة وسيلة النقل إلى المراكز الحكومية للغسيل، أو تكاليف الرعاية الطبية الطارئة التي تحصل لهم أثناء الغسيل، خاصة مع صعوبة التعايش مع هذا المرض من الناحية العلاجية والاجتماعية. وقد يكون هناك البعض أيضاً ممن لا تتوافر لديهم الأهلية للعلاج في المراكز الصحية، من المقيمين الذين ليس لديهم تأمين صحي. وتقدر الجمعية تكلفة العلاج للمريض الواحد بحوالي 115 ألف ريال سنوياً، ويتزايد الطلب على المراكز الحكومية بشكل ضاغط، في حين أن هناك مراكز غسيل كلوي في القطاع الخاص ذات مستوى رعاية صحية جيدة وتتوفر لديها طاقة استيعابية فائضة يمكن استغلالها فيما لو توافرت الإمكانيات المادية.
كل ذلك دعا جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي (كِلانا) (إلى إطلاق برنامج الغسيل الكلوي للمرضى المحتاجين في 1 /1 /1428هـ، والذي خدم منذ انطلاقته أكثر من 700 مريض، وبلغت التكلفة السنوية الإجمالية ثمانين مليونا وخمسمئة ألف ريال سعودي، وتهدف الجمعية إلى الوصول إلى المرضى المحتاجين في كافة أنحاء المملكة، ولأجل ذلك فقد وقعت 28 اتفاقية مع جمعيات خيرية محلية من أجل التعاون في ذلك.
ومما تقوم به الجمعية في هذا المضمار: تأمين جلسات الغسيل الكلوي بواقع 3- 4 جلسات أسبوعياً (مدة الجلسة 3- 4 ساعات)، وتوفير الأدوية التي يحتاجها المريض قبل وأثناء وبعد جلسات الغسيل، بما فيها الأدوية بين الجلسات مثل أدوية الضغط والسكر، وتوفير الفحوصات الدورية، وتوفير العلاجات اللازمة لحالات الطوارئ أثناء الجلسات، وتوفير المواصلات لمراكز الغسيل ومنها. ويدير هذا البرنامج من الناحية الطبية مجاناً شركة التعاونية للتأمين تطوعاً منها. ويشرف على البرنامج لجنة متخصصة من المتطوعين تقوم بدراسة كل حالة بشكل منفصل لتحديد المريض المستحق، وبالتالي يمكن من الاستفادة من برنامج الجمعية. ومن مميزات هذا البرنامج أنه يقدم الرعاية لكل من تنطبق عليه الشروط من السعوديين أو المقيمين بشكل نظامي في المملكة بغض النظر عن الدين أو الانتماء.
ونظراً لأن الجمعية خيرية فهي تقوم على تبرعات المحسنين لحسابات الجمعية في كل من البنك الأهلي ومصرف الراجحي، ولحاجتها لتوفير موارد مالية مستدامة لضمان الصرف على هذا العدد من المرضى في كافة أرجاء البلاد، فقد قامت بالاشتراك مع أجهزة حكومية وأهلية في حملة متميزة للتعريف بمرض الفشل الكلوي، وكيفية الوقاية منه أو علاجه، ولحث الناس على التبرع بالأعضاء والمال أيضاً. وأحد طرق التبرع المادية المبتكرة التي تدفع بها الحملة حالياً وتنفذها بالتعاون مع شركة الاتصالات وزين وموبايلي، هي التبرع عن طريق رسائل الجوال النصية، حيث إن من يرسل رسالة واحدة فارغة إلى الرقم (5060) ستخصم من حسابه عشرة ريالات تذهب لصالح الجمعية، أما من يرغب في أن يتواصل عطاءه لأكثر من مرة، فبإمكانه إرسال رسالة تحوي الرقم (1) إلى الرقم (5060)، وسيتم بذلك اقتطاع مبلغ 12 ريالا شهرياً من حساب المتبرع.
ليس مطلوباً منا أن نكون أثرياء وأصحاب حسابات سرية في سويسرا حتى نصنع الفرق في حياة الآخرين، فهناك من يستطيع التبرع بمبلغ جيد من ماله زكاة أو صدقة، وآخرون سيتبرعون بأعضائهم، وغيرهم بجهودهم التطوعية أو التعريفية، ولعل السواد الأعظم منا، ممن يملك هاتفاً جوالاً، يستطيع أن يرسل رسالة حب تحيي -بأمر الله- هؤلاء المرضى، وتزرع البهجة في قلوب ذويهم، وتمنحهم حياة جديدة تمكنهم من أن يشهدوا تخرج أبنائهم ويبتهجوا في أفراحهم..تماماً كما حصل مع حياتنا الغالية.. التي لها مني قبلة على يدها ورأسها حين تقرأ هذا المقال.