لم يدر في خلدي أن تلك الصخرة الكبيرة الرابضة في أسفل سفح أحد جبال قريتي ستحتفظ بتلك النقوش والعبارات التي نقشها صبية كانوا يرعون أغنامهم قبل عقود، ولم أعلم أنها ستستمر وتقاوم عوامل التعرية وتقلبات الجو على مدار سني طوال، وأنني سأقرأ مستقبلا عن هذا الأدب والفن المتفرد، بأنه معروف في تاريخ العرب، ويسمى أدب الجدران كما ورد في بحث متفرد للأستاذ علي حافظ كريري صدر أخيرا بعنوان أدب الجدران- قراءة فنية في النقش الشعري وفضاءاته البصرية. أوضح أنه لا يقتصر على الصخور، بل شمل المباني وا?نية والتروس والسيوف. وقد نبه بعض الأدباء والكتاب لهذه الظاهرة ومن بينهم إبراهيم البيهقي ت بعد 320 وأبو الطيب محمد الوشاء ت 325 وأبو الفرج الأصفهاني ت 356.
ويعدّ هذا النوع من الأدب الأقل حظا في البحث والدراسات من الباحثين، على الرغم من متعته، وثراء المناطق الغنية به، والمهيأة للدراسة والبحث على امتداد وطننا. نعرف مناطق أثرية ثرية تكثر فيها النقوش العريقة ومنها: مدائن صالح بالعلا، وفي جنوب نجد قرية الفاو التي عمل على إظهارها عبدالرحمن ا?نصاري، نقوش نجران في شتى مواقعها، النقوش اليمنية والثمودية المنتشرة في أماكن كثيرة في الجزيرة العربية وخارجها في العراق والشام. وعلى مدى رقعة الوطن العربي الذي نجد أغلب بلدانه مليئة بالأماكن الأثرية المختلفة، ما زال ا?عتماد على ما قدم بشأنها على دراسة وقراءات وتجميع المستشرقين ويندر من يهتم بها من العرب!
الباحث كريري وفر مرجعا جديدا دسما لكل ما يتعلق بأدب الجدران، وإن كان مخصصا في النقش الشعري إلا أنه ثري جدا.
هو يختص فيما كتب ونقش شعرا وكان الباعث في كتابته: الرغبة في ترك أثر في المكان الذي مر به الشاعر.
يقول رجل من أهل الشام:
اجتزت منارة ا?سكندرية، فدخلتها لأرى من عجيب بنائها، وما أسمع من صفتها، فإني لأطوف فيها فمررت في أعلاها وفيه خطوط الغرباء. وإذا بموضع مكتوب بحبر بين: وصلت إلى هذا الموضع في سنة سبعين ومئتين، وصلت إليه بعد نصب وتعب وشقاء، ولم أحب الانصراف عنه إلا بعد أن يكون لي أثر فقلت هذه الأبيات:
شردتني نوائب الأيام
أن رمتني بصائبات السهام
فرقت بين من أحب وبيني
ويح قلبي المتيم المستهام
لهف نفسي على زمان تقضى
فكأني رأيته في المنام.