فاضل العمري

أذكر هنا قصة قديمة تتحدث عن أهل قرية رغبوا في تغيير بعض أنظمتها وقوانينها (سِلْمها)، وبالطبع فإن هذه الرغبة لم تأت إلا بعد الرضوخ لأصوات طالبت بذلك مما أدى بكبار وأعيان القرية إلى قبول الفكرة على مضض والاجتماع للنظر في الأمر. في أثناء الاجتماع وقبل بدء انعقاد الجلسة التي كادت أن تمثل نقطة تحول في ثقافتهم وتاريخهم قام أحد الشعراء -وهو الصوت الجماهيري المؤثر في ذلك الوقت- وطلب ممن حضر أن يستفتح اجتماعهم بمجموعة أبيات نظمها لهذه المناسبة المهمة وبعدها سيذهب ولهم ما شاؤوا، هنا جاء الشاعر بما يحمله من فطنة ومعرفة بعقلية قومه ليلقي عليهم قصيدةً ذكر فيها أمجاد آبائهم وأجدادهم وفضائلهم، وأخذ يعدد مآثرهم والشقاء الذي مروا به حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وبعد أن حرك الشاعر فيهم مشاعر الغيرة والأنفة والكرامة ومشاعر الخوف من ضياع هيبتهم بضياع سلم آبائهم وأجدادهم، ختم القصيدة برأيه أنهم ليسوا أفضل من سابقيهم ولو أن ما يفكرون فيه صواباً لما غفل عنه أسلافهم، وبعدها أنهى قصيدته وذهب، وماذا بقي! لقد ذهب أهالي القرية كلهم بأعيانها وكبارها وعقلائها قبل غيرهم مع الشاعر وهم يقولون ختم الشاعر.. ختم الشاعر..
هنا تأتي سلطة القديم وخوف المساس به، وهنا أيضاً يأتي الدور المؤثر للصوت المسموع (الشاعر قديماً والمفكر أو المثقف الجماهيري حديثاً)، حين تتعرض الثقافة الموروثة لشيء من النقد، فإنها تعلق بالمثقف الجماهيري آمالاً كبيرة، والسبب هو أن أنصارها يدركون جيداً أن مشكلتهم الأولى تتمثل في يقظة العقل، لذا هم يحرصون دائماً على تسكينه وتفعيل الوجدان المتعاطف دائماً مع ماضيهم. جلّ ما يخشونه هو يقظة المثقف، فيقظته تعني يقظة العقل، ويقظة العقل تعني استخدام أداة الاستفهام (لماذا)، وهنا سيجد المجتمع نفسه أمام ثقافة لا تملك إجابات مقنعة على أسئلة كثيرة، علَّ أهمها: لماذا نعيش في الماضي؟
حين قام الشاعر لم يكن مضمون القصيدة السبب الوحيد في إقناع أهل قريته بما أراد، استفتاحه بقصيدته قبل شروعهم في النقاش كان السبب الأهم، ما فعله هو أنه استخدم أهم أدوات الثقافة الموروثة وهي تهييج عواطفهم قبل أن يصبح للمنطق والعقل حضور في الاجتماع، ولو أنه آثر تأجيل قصيدته حتى ينتهوا من نقاشهم، لدخل أهل القرية في نقاش عقلي منطقي سيقودهم إلى السؤال الأصعب على الشاعر وغيره من أنصار الثقافة الموروثة: لماذا نعيش في الماضي؟ وحينها لن يحقق بشعره غايته.
أفضل طريقة لتبرير الخطأ وإلباسه لباس الشرعية هي مخاطبة العاطفة في وقت يغيب فيه العقل والمنطق، هذا ما فطن إليه الشاعر حين بادر بالقصيدة وكان له ما أراد، والسؤال هنا.. كيف سيكون حال القرية لو أنها سلمت من مشاركة شاعرها البطل؟