يرى الشعر جمراً وعاصفة، ينبت في الأوجاع كاللظى، بل يراه سلالة أحزان معتقة، وشبابة ألق تنسل من فتنة الرؤيا وخيوط النور، يرى القصيدة ظلاً للعابرين وقنديلاً للسارين وأريكة للمتعبين، يفتح بشاعريته أفقاً ذهنيا من خلال تصعيده للمفردات في تركيبة لغوية أخاذة ومرهفة، ومضامين فكرية وروحية يعج بها منجزه الشعري، فهو لا يميل إلى المراوغة والغموض والتعميات السلبية والتحايل الماكر الذي يصعب اختراقه، كما يفعل البعض حين يتكتم على خبايا النص ويطالبك بكشف الحجب واستكشاف الحيل الشعرية، ولكن قصائده تطفح بالتدفق والامتلاء الجمالي واليقظة الإدراكية والفلسفية، والتوظيف الأسطوري المتسق مع روح القصيدة وتناميها، أذهلني في تجربة الدكتور الشاعر صالح الزهراني ذلك الانفجار العذب والبرق المترائي والترميزي والحيوات المشعة والتمثلات المنسربة والكامنة في نهاية القصيدة الزهرانية، بكل ما فيها من مخيال لا متناه واقتناص إيحائي، فهو يمرر القصيدة ما بين وريده الشعري وأصابعه الخضراء لتكسب شعريته روحاً طقسية ساخنة ومستجدات محرضة ومدوية كبواعث إبداعية، ومحمولات لا يغترفها إلا القلة من شعراء العربية. لقصيدته هيبة كمبدعها مستمدة من زاوية النظرة لديه، فهو يمارس إطلالته على التراث ويراه بعيون معاصرة وتجديدية، ولكني توقفت كثيراً أمام ما ينتظم داخل نصه الشعري حين منحه تلك الوظيفة والحضور المنثال كما قلت في نهاية أغلب قصائده، كمختصر مسهم في توصيل محور النص محققاً الوثبة المموسقة والأمثولة الاستعادية مع تكثيف المعنى وشعرية الدلالة، والانتباهة المتعالية في خفة ونعومة، اسمعه وهو يختتم قصيدة (قراءة لعوامل التعرية): وغريبة حال المحب إذا اشتكى.. لكن حال الخائنين الأغرب، وفي (رسالة إلى أميرة الغرابة) يأتي البيت الأخير: كل الأحاديث عن أهلي ملفقة.. ولن يصح حديث ماله سند. وتستمر تلميحات الشاعر في جل قصائده ومتوالياته المترعة بالبوح والاستنطاق، فهو لا يتقصد ذلك المنحى ولكن القصيدة بين يديه تمارس سلطتها الاختزالية ورغبتها المسرحية في أن تنزل الستارة على هذا المشهد: فلولا الغناء العذب ما امتد منحنى ولا قطّع الترحال بالشدو طائر. وفي مختتم (جغرافيا الرقاب): إذا لم يكتب العلماء مجداً لأمتهم فعلمهم سراب.
وفي لغة متجاوزة ومبتكرة وانهيالات متشابكة يقول في (نهاية رجل مجنون): ألم تقولوا سنا المجنون حكمته.. فهذه حكمة من عقل مجنون، وفي لوحة أخرى: إن السكوت هزيمة أدمنتها.. والحب لا يحلو بدون هزائم. وكم أسفر هذا الشاعر الاستثنائي عن ما تستبطنه زوادته الشعرية من المضامين والجماليات والمفاجآت وحرارة الروح، التي لا تسمح هذه الزاوية النحيلة بتدوين تلك الفيوض والإشراقات.
ونختمها بقوله: كم يذنب العشاق في أشواقهم.. ما أجبن العشاق إن لم يذنبوا!