جئت من الرياض إلى دوحة النماء، وكأنني انتقلت من مدينة سعودية إلى أخرى، فليس بيننا غربة أو اختلاف، ولكن انصهار وتصاهر، وتواد وتراحم
أنا الآن في الدوحة لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي التي تنعقد في ظرف استثنائي دقيق في مواجهة العديد من التحديات الأمنية، وفي ظل ما تشهده المنطقة من تجاذبات وأحلام توسع وتنازع أدوار وتنمر أشرار، وكذلك في ظل ما تشهده من تحديات اقتصادية سينعكس أثرها وتأثيرها قريبا وبعيدا، وذلك بفعل البرميل الأسود الذي يتدحرج نزولا على نحو لا يملك أحد الجزم بأسبابه ولا نتائجه التي تلسع تأثيراتها السلبية عددا من القوى الكبرى والكثير من الدول التي تتربص في انتظار أن يستقر هذا البرميل عند نقطة الثبات.
أنا في الدوحة في قمة خليجية مختلفة تماماً، لكونها تأتي في ظل تحولات دراماتيكية طالت البيت الخليجي وهزت سكونه واستقراره.
ومن هنا فإن جميع أبناء المجلس متحفزون ويحيط بهم شيء من التوتر على نتائج هذه القمة، فهم يرون أنها يمكن أن تكون قمة لترطيب الأجواء وترميم النفوس وتسكين المخاوف والتوجسات التي شاعت خلال الفترة الماضية، أو تكون قمة لتفجير المكنون ولمزيد من التلاوم والتعاتب وربما التنافر لا سمح الله، لكن حجم المتفائلين أكثر وأكبر ولله الحمد، لعلمهم أن قادة وشعوب دول المجلس يتوافرون على مشتركات كثيرة تجمعهم ولا تفرقهم وهي المشتركات التي تكاد تنفرد بها دول مجلس التعاون الخليجي عربياً على النحو الذي جعل هذا المجلس صامداً خلال العقود الماضية، رغم كل المكائد والأعاصير والحروب والمخاطر التي أحاطت به واستهدفته من بعض الطامحين في الجوار أو من بعض المتآمرين في أقصى الغرب.
أنا في قمة الدوحة ولن أتحدث عن قمتها لعلمي أنها ستكون محور الكلام لكل الخبراء والمحللين والنقاد السياسيين. لكنني سأتحدث عن الدوحة التي زرتها في القمة الرابعة عام 1983 وحضرتها في ذلك الحين ممثلاً لمجلة اليمامة.
كان فندق الشيراتون هو مقر إقامتنا، وكان مبناه يعد في تلك الأيام علامة فارقة لأنه بني على طراز هرمي في مواجهة البحر وبعيداً عن الدوحة التقليدية التي كانت في تلك الفترة تنام وهي تتوسد حلما.
كانت الدوحة في ذلك الوقت مثل كل فتاة قروية تتجمل بأدواتها التقليدية وموروثاتها الشعبية كالبراقع والحناء والديرم والملابس المطرزة والسواعد المتجملة باللؤلؤ، لكنها وهي تغفو كانت تهجس بالحداثة واللحاق بمواكب المتمدنين ومجايلة التطور والعصرنة التي تجتاح العالم.
وقد كان للدوحة ما أرادت، فقد أخذ حلمها يتشكل على أرض الواقع على يد الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة الذي أصبح أميراً للبلاد، حيث بدأ من فوره يعيد صياغة الدولة ويتولى في خطة طموحة تحديثها ونقلها إلى العالم الجديد.
وهكذا أخذت الدوحة زينتها وذاع صيتها حتى أصبحت قطر هي الجزيرة التي لا تغيب عنها الشمس، صار صوتها يعلو، وذكرها يحلو في المحافل الثقافية وفي المضامير الرياضية، ولم تعد الدوحة منكفئة على نفسها كما كانت قبل زمن الشيخ حمد بن خليفة، بل صارت تذهب للعالم حيناً ويأتيها العالم حيناً آخر.
صار لقطر حضورها التوفيقي وأحياناً حضورها المناكف والمشاغب فهي توفق وتجمع وتعلو وتهبط وتصرخ وتهمس وتجهر وتصمت، لكنها موجودة تفاوض في كل حالاتها واسمها يتردد على كل لسان وفي كل محفل.
كانت الدوحة في قمتها الرابعة تغفو على حلم وهي في قمتها الحالية تحت قيادة الأمير الشيخ تميم، ابن الأمير الوالد الذي أعاد صياغة قطر وتحديثها يكمل المسيرة ويصعد بها إلى مدارج أعلى وأحدث، بشكل يتوافق مع روح ومكتسبات الشباب الذين يمثلهم الأمير الشيخ تميم بن حمد.
أنا الآن في دانة الخليج ودوحة النماء والتطور وموئل الحداثة، جئت من الرياض إلى الدوحة وكأنني انتقلت من مدينة سعودية إلى أخرى، فليس بيننا غربة أو اختلاف ولكن انصهار وتصاهر وتواد وتراحم، وكان قد جسد ذلك الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- في قصيدته الذائعة الصيت وهو يقول:
نسيتُ أين أنا
إن الرياض هنا مع المنامة مشغولان بالسمر
أم أنها مسقط السمراء زائرتي
أم أنها الدوحة الخضراء في قطر
أم الكويت التي حيت فهمت بها
أم أنها العين كم في العين من حور
بدو وبحارة ما الفرق بينهما
والبر والبحر ينسابان من مضر
خليج إن حبال الله تربطنا
فهل يقربنا خيط من البشر؟