طالما أن اختيار القيادات الإدارية يتم طبقاً لاعتبارات الولاء والطاعة العمياء، فإنها لن تتمتع بالكفاءة والاستقامة، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تفريخ مظاهر الفساد وانتعاشها

انتهت فعاليات مؤتمر معهد الإدارة العامة حول القيادات الإدارية الحكومية في المملكة العربية السعودية، والذي تناول مواضيع وأبحاثا ودراسات مهمة في هذا المجال، كان من أبرزها تلك الدراسة التي توصلت إلى أن الولاء للمسؤول والطاعة العمياء له، والانتماء الإقليمي والمكانة الأسرية والانتماء القبلي تعد من أهم المعايير المطبقة حالياً في اختيار القيادات الإدارية!
وفي حديث لوزير الخدمة المدنية في المؤتمر أقر بوجود ضعف في آليات اكتشاف واستقطاب وتطوير القيادات الإدارية واستثمارها في الأجهزة الحكومية، مؤكداً في الوقت ذاته على قيام الوزارة بإعداد خطة شاملة للتحول الاستراتيجي لتعكس رؤيتها في مواجهة التحديات وتطوير الخدمة المدنية بالمملكة.
كما تعرضت أوراق العمل المطروحة في المؤتمر إلى العديد من الظواهر والمشاكل المتعلقة بالقيادات والسلوك الإداري في الجهات الحكومية، ولكن هناك حقائق يجدر التطرق إليها واستعراضها قبل التصدي للسؤال الأهم عن السبيل إلى تطوير القيادات الإدارية الحكومية، ومن أبرز هذه الحقائق ما يلي:
أولاً: القيادات في بعض الجهات الحكومية هي قيادات تسلطية استبدادية، تخدم أهدافاً شخصية في ظل عدم وجود ضوابط مؤسسية واضحة وغياب الهوية المهنية، فبعض الجهات الحكومية يبدو مظهرها تنموياً في هيكلها الإداري، ومتسلطاً من حيث الممارسة.
ثانياً: بعض القيادات الإدارية في الجهات الحكومية تقول ما لا تفعل، فيكون التشبث بالمنصب الوظيفي هو محور اهتمامها الأول، ولهذا تأتي قضايا الإصلاح الإداري في محاور ثانوية يندر أن تجد اهتماما جاداً.
ثالثاً: الافتقار إلى المساءلة العامة، وبعض الجهات الرقابية للأسف تقاوم هذا المفهوم من خلال إصرارها على تطبيق المناهج التقليدية القديمة للرقابة، وبالتالي لا توجد مساءلة للإدارة بمفهومها الحديث والواسع، كما أن الأنظمة التأديبية لا تجد طريقها إلى التطبيق بحق القيادات الإدارية.
رابعاً: بعض القيادات الإدارية تقف مع التنمية ظاهراً، وتعاديها وتقاومها باطناً، وربما رفعت هذه القيادات شعار الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، ولكن في طيات هذا الشعار نزعات نحو فرض السلطة على الموظفين.
خامساً: بعض القيادات الإدارية لا تفسح المجال أمام الموظفين للمشاركة في اتخاذ القرارات أو الإبداع في مجال العمل، فإذا شكت في رغبة أحد الموظفين في إحداث تغيير أو تطوير في الجهة الحكومية، أو يحمل من الأفكار ما يخالف الأفكار التي تتبناها تلك القيادات، فإنه يتم استبعاد مثل هؤلاء الموظفين وجعلهم في مراكز وظيفية غير مؤثرة، وإن وصلوا إلى مراكز قيادية فإنه يتم إجهاض أي محاولة لهم في التطوير، وقد تجبرهم على الاستقالة أو تقديم التقاعد المبكر.
سادساً: يختلط الأمر في معظم الأحيان على الدارسين والباحثين فلا يفرقون بين القائد والرئيس على الرغم من تباين وتميز كل منهما على الآخر، فليس كل رئيس قائدا، بينما كل قائد رئيس، فالبعض يعتقد خطأ أن المنصب في حد ذاته مدخل إلى القيادة، ثم يتوقعون بالتالي أن تنمو في مرؤوسيهم مشاعر الولاء لهم، فيخلطون بين مستواهم الوظيفي وبين العملية القيادية!.
إن القيادات الإدارية في الجهات الحكومية هي وحدها صانعة القرار بطريق مباشر أو غير مباشر، وهذه السلطة منطلقها فردي، وبالتالي فإن الدور الذي تؤديه هذه القيادات في أي جهة حكومية له من التأثير المنعكس على الجهة بأكملها ما لا يمكن تجاهله، سواء أكان هذا الدور سلبياً أم إيجابياً.
في بعض الجهات الحكومية يتم اختيار القيادات الإدارية من الذين يطبقون مفهوم عبدالمأمور أو طاعة العبد لسيده، فيمتثلون للأوامر حتى وإن كانت مخالفة للأنظمة واللوائح، فيلتزمون الطاعة العمياء تجاه رئيسهم، وينفذون كثيراً من رغباته، بالإضافة إلى استغلالهم بحيث تكون هذه القيادات مشجباً يعلق عليه الرئيس رغباته المشبوهة.
وعلى هذا الأساس تتم تصفية القيادات الإدارية المؤهلة والقوية، حتى لا يكون هناك معارض أو حجر عثرة أمام رغبات الرئيس الشخصية، فيتم تشكيل لجنة للترقيات جلّ أعضائها من القيادات الإدارية الضعيفة التي تم اختيارها مسبقاً، من مهامها ترشيح القيادات الإدارية المستقبلية والتي من شروطها الضمنية الطاعة العمياء، علماً بأن هذه القيادات تم اختيارها مسبقاً، لتتم تزكيتها فيما بعد عند الرفع بترقياتها إلى الجهات العليا.
والغريب في الأمر أن يكون في بعض الجهات الحكومية وظائف قيادية (مدير عام) مع وقف التنفيذ تتم الترقية عليها كمجاملة أو وساطة أو تغطية على منصب قيادي آخر، أو ترك بعض الوظائف القيادية الأخرى شاغرة، يتم شغلها عن طريق التكليف لتجاوز بعض الشروط والمحددات النظامية.
لقد أقر وزير الخدمة المدنية - وإن لم يصرّح بذلك - بوجود تلك الممارسات الإدارية السابقة، كذلك تضمنتها البحوث والدراسات المقدمة في مؤتمر معهد الإدارة العامة حول هذا الموضوع، فالوزير يعترف بضعف آليات استقطاب وتطوير القيادات الإدارية، والدراسات تؤكد أن المعايير الحالية في الاختيار هي الطاعة العمياء.. فهل هناك من سبيل؟
طالما أن اختيار القيادات الإدارية يتم طبقاً لاعتبارات الولاء والطاعة العمياء، فإنها لا تتمتع بالكفاءة والاستقامة، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تفريخ مظاهر الفساد وانتعاشها، على اعتبار أن المنصب الوظيفي لخدمة المصالح الشخصية لا لخدمة المجتمع.
هذا بالإضافة إلى ما يعرف بترهل القيادات الإدارية في مقاعدها، وقد أشارت وزارة الخدمة المدنية إلى ذلك بشكل غير مباشر، فقد ذكرت أن ما نسبته 92 % من القيادات تجاوزوا عمر الـ50 سنة، كما تلقت الوزارة طلبات بالتمديد لقيادات بلغت سن التقاعد، الأمر الذي قد يؤدي مع مرور الوقت إلى نمو شبكة المصالح مع غياب الأنموذج والقدوة الحسنة.
في النهاية تقول الخدمة المدنية إنها أطلقت (115) مبادرة، منها ما يتعلق بتطوير القيادات الإدارية، والسؤال المطروح: أين هي هذه المبادرات؟ فالوضع مازال على حاله!