كنت واضحا شفافا مع صديق الغربة والدراسة القديم وأنا أشرح له عتب الأسباب المتداخلة التي رمت بابنه البكر إلى مجاهل الجهاد المزعوم في صحاري بادية العراق والشام. الوالد، أحيانا، ومعه الأسرة وطريقة التربية، شركاء في هذه المأساة، ويؤسفني أنه عاد إلي واستمع لنصائحي بعد فوات الأوان. هو نفسه كان أكثر وضوحا وهو يهاتفني في لحظة متأخرة من مساء ما قبل الأمس، ليطلب مني كتابة كامل القصة، ولو حتى بالأسماء، من أجل العبرة وحتى لا تسقط أسر جديدة في ذات الشراك والفخ. تكمن ذروة المأساة كما قال لي والده بالضبط: حين يستقبلون من ابنهم البكر اتصالاته المتقطعة وهو يطلب من والده الإنقاذ من براثن تنظيم متطرف. يقول الأب المكلوم: لن أنسى أبدا تلك الجملة المكررة: سيقتلونني يا والدي لو عرفوا أنني اتصلت.
حملت أحمد طفلا صغيرا على أكتافي مع والده تناوبا في شوارع الغربة في المدن الأميركية، كنت أطمئن لالتزام هذا الصديق، وكنت أيضا أشاغبه حد الاختلاف والخصام في بعض مظاهر التشدد والتزمت. وحين زرته في الرياض لآخر مرة قبل عامين، قلت له ناصحا: انتبه لـأحمد قبل وقوع الكارثة. ولأن بيننا من الحب العميق وفهم الطبائع ما سمح له بأن يودعني ضاحكا مبتسما بأوصاف ونعوت في حقي ولكنني أقبلها منه بذات الحب والأريحية. ويؤلمني جدا أن أكتب إملاءات صديق عزيز وهو يقول لي قبل البارحة اكتب ما يلي: أنا الوالد الذي بنى وكتب هذه السيرة الذاتية لطفل يواجه الرصاص إن حاول الهرب أو حتى مجرد الحديث لوالديه، أنا الوالد الذي زرع فيه القدوة الخاطئة حين أسميت أخواه أسامة وأيمن بكل ما لهذين الاسمين من رمزية مريبة. أنا الوالد الذي ترك أحمد مجبرا لحلقات ما بعد العصر ولجان التنمية الاجتماعية في طرف الحي ورحلات إجازات العام المشبوهة ومعسكرات الصيف المحظورة في الاستراحات المشبوهة المنسية.
يواصل: كل هذه البرامج والأفكار والمعسكرات والرحلات المدرسية هي من أوصلنا إلى هذا الواقع المخيف لمراهق يعيش اليوم بين خوف الرصاص، إن حاول المكالمة أو الهرب. أنا من دفعته بيدي إلى هذا العذاب المؤلم، بالشراكة مع كل من ائتمنتهم عليه ولا زالوا طلقاء أحرارا يدفعون بجدد إلى ذات الطريق. يختم.. في كل سيرة شاب متطرف فتش عن والديه.