الكثيرون منا لا يتقنون فن الجدال أو الحوار، لذا فهم يكررون السقوط في ذات المشكلة كل مرة، فهل وقوعنا المتكرر في نفس المشاكل يعود إلى عدم قدرتنا على الاستماع الجيد لما يدور حولنا؟
أثناء رحلتي إلى دبي لحضور معرض الشارقة الدولي للكتاب، اتخذت مقعدي في الطائرة، وكنت وقتها أضع كماما على نصف وجهي، خشية أن ينتقل الرذاذ المتطاير أثناء سعالي، إلى بقية المسافرين معي على ذات الرحلة.
كنت أسعل بشدة معظم الوقت، ففكرت أن وجود الكمام سيكون مناسبا وصحيا، لكني لم أكن أتوقع أن هذا الكمام يمكن أن يسبب ارتباكا للمسافر الذي سيجلس بجانبي، فقد ظل واقفا مضطربا لا يود الجلوس، لكنه في نهاية الأمر استسلم لواقعه المرير، وجلس بالمقعد الوحيد الذي بجانبي، ولأنه كان خائفا، كان لا بد أن يفتح مختلف الأحاديث، حتى يعرف جيدا سبب وضعي الكمام.
بعد محادثة قصيرة يبدو أن الطبيب ورئيس إحدى العيادات الجراحية قد شعر بالارتياح والطمأنينة، فقرر الحديث عن القيم والمبادئ التي استطاع أن يكتسبها من خلال تعامله مع الأجانب، وقبلها قرر أن يفصح عن سبب خوفه من الجلوس بجانبي قائلا: أعالج مرضى كثر، وهم في انتظاري على أحر من الجمر، لذا لا أود أن أمرض أو أنقل لهم أي عدوى.
حاولت أن أصدق تبريره، على الأخص أنه تطرق في أحاديثه نحو المصاعب النفسية التي يواجهها في عمله بشكل شخصي، فهو لا يشتكي من ضغط العمل، أو حتى من الساعات الطويلة التي يقضيها بعد انقضاء مهام عمله، إذ اعتادت أسرته على تأخيره الدائم، إنه يعاني من شيء آخر مع موظفيه، وهو عدم وجود حوار جيد بينه وبينهم، فيقول: في الوطن العربي لا يمكن لأحد أن يتسوعب أن هناك رأيا يخالفه. هو لا يتقبل النقد ولا يتقبل الاختلاف، ولا يفهم ماذا يعني أن الحوار عبارة عن طرفين وليس طرفا واحدا فقط.
كان يبدو على الطبيب أنه يمر بمعاناة يومية مع زملائه، ومطلوب منه أن يكون على مستوى عال من المهارة الإدارية، إلى جانب أهمية مهارته كطبيب معالج، لذا يبدو عليه أنه مثقل بالهموم وغارق في مشاكل إدارية شتى، وكل ذلك كما فهمت من عدم وجود طرفين متجانسين في الحوار، فالمحاور لا يود أن يسمع شيئا من الطرف الآخر، ولكنه على استعداد للحديث دون توقف من أجل تبرير موقفه.
أشار الطبيب بأسى إلى أنه يسعد كثيرا في كل مرة يسافر فيها إلى الخارج، فيقول ألتقي بأطباء يفوقونني مهارة وخبرة، ولكن ما إن أتكلم حتى يصيخوا السمع لي، إن كل ما نحتاج إليه أحيانا أن يرهف السمع من نتحدث إليهم.
وأضاف: إنهم مهما بلغوا من درجة عالية في التعليم والخبرة، إلا أنهم يبقون في حاجة إلى مزيد من الفهم، وسريعا ما تذكرت زميلتي البريطانية من أصل تركي، حينما جاءت للعمل في المملكة، فقالت بالحرف الواحد: أشعر بالاندهاش لهذه الأعداد الكبيرة من الموظفات السعوديات، وهو الأمر الذي لم يخبرني أحد به مسبقا، لكن لماذا هذا الشعور الجاثم المرير بالكبرياء، وعدم رغبة البعض منهن في التعلم؟ أيضا كان لآسيا عزيز وجهة نظر تتعلق بمفهوم الحوار، وكيف يمكن للمرء أن يكتسب الخبرة خلال احتكاكه بالآخرين، فإذا بها تقول: على الرغم من أن الموظفات لا يملكن سوى خبرة لا تتجاوز أشهرا بسيطة، إلا أنني لم أجد إحداهن لديها الرغبة الكبيرة في الاستفادة ممن حولها، وأكملت قائلة: كنت قد تعلمت من رئيستي في عملي السابق، أن أصيخ السمع إلى مختلف الآراء، أن أتفهم ماذا يريد أي من زبائن الشركة بصبر وأناة وهدوء كبير، كنت أعرف أن بعضهم يخطئ فيما يقوله أمامي، لكني لم أكن لأورط أحدهم، بل كنت أشرح لهم أن الأمر يمكن أن يكون ضدهم، لذا احتجت وقتا طويلا كي أقول إني اكتفيت، وإني لست بحاجة إلى من يوجهني، فقد كنت أجد أن تجارب الآخرين هي ملاذي الكبير، وهي الثروة التي لا يفطن إليها أحد.
ما قاله الطبيب والتركية آسيا عزيز، ينصبّ كله في بوتقة واحدة، أن الكثيرين منا يجهلون حتى الآن كيف لهم أن يتقنوا فن الجدال أو الحوار، لذا فهم يكررون السقوط في ذات المشكلة مرة تلو الأخرى، والسؤال الذي يخطر في ذهني: هل وقوعنا المتكرر في نفس المشاكل، يعود إلى عدم قدرتنا على الاستماع الجيد لما يدور حولنا؟ أو لعدم قدرتنا على الاستفادة من تجاربنا؟ أو لأننا لا ندرك جيدا كيفية تحديد المشكلة التي تواجهنا؟
أما ما ذكرته آسيا فيما يتعلق ببعض الموظفات السعوديات اللاتي عملت معهن، فأنا لا أجد أن الموظفة فقط هي التي لا ترغب في كسب التجارب من الآخرين، وإنما حتى الموظفين الشباب، تجد أحدهم بعد أقل من شهرين من تعيينه في وظيفته يبدأ يتعامل معك وكأنه قد تشرب تماما حقيقة عمله، لذا يحاول أن يصم أذنيه عن الاستماع إلى أي نصيحة، بل ويجد أن مثل هذه النصائح هي إهانة شخصية له. ليتنا فقط نتعلم من آسيا..