الاهتمام بالثقافة بعناصرها كاملة، وتسخير جهود الجهات التربوية والتعليمية والاجتماعية المعنية بالشباب من الجنسين لاختيار وممارسة الأنشطة الثقافية، سيضمن لنا حماية أبنائنا من البحث عن بديل، سواء أكان تطرفا إرهابيا، أم انحرافا عقديا وسلوكيا
أن يجتمع تسعة عشر مسؤولا بين وزير ورئيس لقطاعات وهيئات حكومية مهمة في الوطن، يعني أن هناك قضية مهمة أجمعوا الأمر لنقاشها ووضع حلول لمشاكلها وخطط عمل لتلك القضية والمحور الرئيس الذي دار حولها اجتماعهم. فقد عُقد يوم الأربعاء الماضي اجتماعاً برئاسة وزير التربية والتعليم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بحضور كل من: وزير الخارجية، ووزير الشؤون الاجتماعية، ورئيس الاستخبارات العامة، ووكيل وزارة الخارجية لشؤون المعلومات، ونائب وزير الداخلية، ووزير العمل، ووزير الاقتصاد والتخطيط، ووزير التعليم العالي بالنيابة، والرئيس العام لرعاية الشباب، ومحافظ المؤسسة العامة للتدريب المهني والتقني، وأمين عام مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ورئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، ونائب وزير الثقافة والإعلام وغيرهم. نوقش في هذا الاجتماع تطوير الثقافة الموجهة للشباب في المؤسسات التربوية والتعليمية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في ظل الإمكانات التي توفرها القيادة وبين هذه القطاعات المعنية وما يمكن عمله من أجل تلبية احتياجات هذا الجيل وتهيئتهم علميا وثقافيًّا للمشاركة في بناء الوطن وحمايتهم من المخاطر المحيطة بهم في الفترة الراهنة.
دائمًا ما يكون الكلام سهًلا ومستساغاً، ونبني على إثره طموحًا وآمالا كبيرة، ولكن حينما نُنزل هذا الكلام على أرض الواقع والتطبيق العملي نُفاجأ بحجم الهوة والثغرة بين القول والعمل من جهة، وبين الوزارات والمؤسسات المذكورة أعلاه وبين واقع الشباب من جهة أخرى. وهذا الاجتماع يعني بتطوير الثقافة المقدمة للشباب، فما المقصود بالثقافة هنا؟
تتفاوت التعريفات وتتباين في تقديمها لمعنى واضح للثقافة، ولكن نستطيع تحديدها بأنها تلك الممارسات والمهارات والمواهب الإبداعية المختلفة من أنشطة رياضية وحرفية وأدبية وفنية، مادية وغير مادية، يندرج تحتها: فنون المسرح والموسيقى والرسم والعمارة والنحت والسينما والرقص وغيرها من الفنون القديمة أو المعاصرة. وتجتمع كل هذه المناشط الثقافية في أنها تشكل هوية المجتمعات وترسم معالم حضارتها، وتنمي الحسّ الإنساني داخل النشء وتهذبه وتصقل جوهره وهو يعبر فيها عن ذاته بطريقة إنسانية سلميّة ينسجم معها تحت مظلة الجمال والإبداع.
إن الأحداث الإرهابية المختلفة في السنوات الأخيرة التي تعرضت لها المملكة، بدءًا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى كارثة الدالوة، وانخراط أعداد كبيرة وملحوظة من شباب الوطن في صفوف القاعدة وداعش وجبهة النصرة، والتطرف في التعاملات الدينية التي ما أنزل الله بها من سلطان التي قادت لاستسهال التكفير والاعتداء وإقصاء من يخالفه فكرًا أو مذهبًا، جميعها - مع المشكلات الأخرى التي تواجهها أغلب المجتمعات من قضايا مخدرات وتفحيط وتحرش، التي تستفحل وتزيد في مجتمعات عن أخرى خاصة تلك التي تفتقد الاهتمام الحقيقي والفاعل بالثقافة - جميعها أمور تستدعي الاهتمام بالشباب أكثر، ودراسة احتياجاتهم ومطالبهم وتنفيذ خطط عاجلة وعملية تُمكنهم من شراكة فاعلة وحقيقية في نهضة وبناء المجتمع في جميع مجالاته.
الشباب لا يجدون في أوقات فراغهم الطويلة أي منافذ تستوعب حماسهم وانطلاقهم وتوقد جذوة الشباب فيهم وتستثمرها بما يعود عليهم بالمنفعة وبالتالي على مجتمعهم، فالأندية الرياضية قليلة ومحصورة في الغالب في نشاط واحد بالإضافة إلى أنها إن وجدت، فهي متاحة للشباب من الذكور فقط. الحدائق العامة ومراكز التسوق أغلبها طارد للشباب ومخصصة للعائلات، ولا توجد مسارح ودور سينما أو معارض وعروض فنية - سمعية أو بصرية - دائمة، حديثة أو تراثية، وبالتالي لا توجد معاهد مختصة بهذه الفنون يستطيع المهتم بها من الجنسين الانضمام لها. الأندية الأدبية غير جاذبة بفعالياتها الحالية للشباب المهتمين بالأدب المكتوب أو المقروء ولا توجد مراكز ثقافية شاملة لجميع هذه الفروع الثقافية في كل مدينة أو قرية. وثقافة الأنشطة الاجتماعية التطوعية غائبة عن كثير من المناطق وغير مفعلة فيها. والمناطق التراثية والأثرية مهملة ومنسية. فيضطر بعض الشباب للتسكع في الشوارع وعلى الأرصفة وربما ممارسة سلوكيات شاذة وغير حضارية، وتبقى الشابات رهينات القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي يبددن بها الوقت لا أكثر.
ترؤس وزير التربية والتعليم لمثل هذا اللقاء وبوجود هذه الجهات الحكومية المهمة دليل على أن الانطلاقة الأولى لتطوير الثقافة الموجهة للنشء تبدأ من معاقل التربية والتعليم، التي تخلو مناهجها مع الأسف من أي ذكر واهتمام لهذه الفروع من الثقافة بل تُحارب وتعتبر بعضها من الأمور المستبعدة والمحرم ذكرها أو نقاشها داخل أو خارج الفصل، ومن توجد لديه موهبة ثقافية/ فنية من الطلاب والطالبات لا يجد العناية اللازمة والكافية بل ربما قد تُستبعد موهبته من سياق السباق والمشاركة لعدم تخصص المشرفين على مجال الموهبة في المدارس وعدم وجود أنظمة وقرارات تسمح وتساعد على دعم الطالب المهتم بهذا الجانب. بالإضافة إلى تراكم التفكير الجمعي وقناعته منذ سنوات طويلة من خلال التعليم، بمناهجه ومعلميه وإداراته، بحرمة بعض الفنون فخرجت أجيال خالية من الحس الإنساني الفني والجمالي الذي يهذب الروح والتعامل مع الآخر.
إن الاهتمام بالثقافة بعناصرها كاملة وفروعها التي تندرج تحتها، وتسخير جهود الجهات التربوية والتعليمية والاجتماعية المعنية بالشباب من الجنسين لاختيار وممارسة الأنشطة الثقافية التي تهمهم بعد توفيرها في مراكز ثقافية تتشارك فيها الجهات الحكومية والخاصة، بالإضافة لجعلها منهجا يطبق بحرفية وإلزامية ووعي في التعليم العام والعالي مع التعاون والاستفادة من خبرات الدول الأخرى في هذا المجال، سيضمن لنا سلامة أبنائنا من البحث عن بديل يملأ فراغهم، سواء كان هذا البديل تطرفا إرهابيا، أم انحرافا عقديا وسلوكيا استطاع البعض استغلاله وإقناعهم بجدواه، ونضمن بالتالي أمن الوطن والحفاظ على خيراته ومكتسباته والمساهمة الفاعلة من الشريحة الكبيرة التي تمثله، مساهمة علمية ومعرفية واجتماعية وفنيّة، قوامها شباب استطعنا استثماره من خلال تنمية إنسانيته عن طريق الثالوث المؤثر في هذه الإنسانية وهو التعليم والإعلام والثقافة.