إيران تستغل المواجهة الوشيكة على 'داعش' لمقايضة أزماتها.. مقابل تقديم دعم لوجستي
يوضح تقرير محدود الانتشار أعدته مجموعة عمل أمنية مشتركة بين خبراء أمنيين مصريين وعرب أن طبيعة الجيل الجديد من القاعدة وهو داعش تنظيم دولي يتمتع بقدرات بشرية واقتصادية، فعناصره تتسم بمستويات قتالية وتدريبية تجعلهم أقرب للجيوش النظامية بهدف السيطرة على مساحات جغرافية، وهو ما يزيد من خطورة داعش على المنطقة ويحد من خطورته على المستويين الإقليمي والدولي، بينما يتسم أعضاء القاعدة التقليديون الذين لم ينخرطوا بتنظيم داعش بأنهم تلقوا تدريبًا محترفًا على حروب العصابات، فتنظيم داعش بمثابة ميلشيات موازية للجيوش النظامية التي لا تنفذ عمليات خارج نطاق سيطرتها موجهة ضرباتها للسكان المحليين بالمناطق التي احتلها كما يعتبر داعش التنظيم الإرهابي الأغنى عالميًا بسبب تدفق الأموال بسرقة وبيع النفط والخطف وفرض الإتاوات ودعم قوى إقليمية.
لعبة الأمم
وهكذا يتضح أن ولادة داعش لا يمكن تناولها بمعزل عن نشوء حركة طالبان ولعبة الأمم التي ساهمت بتدشينها أميركا إبان الحرب الباردة، مروراً بباكستان التي أدمنت التدخل في أفغانستان معتبراً إياها حديقتها الخلفية، فضلاً عن الأطراف الإقليمية الأخرى كإيران التي تبدو على خلاف مع واشنطن، لكنها باتت تخضع لما يوصف أميركيا لإعادة تقييم حاليًا.
ويقول دبلوماسي أميركي بالقاهرة إن النظام الديني بإيران براجماتي ولا يعارض داعش فحسب، لكنه يتمتع بتأثير واضح أيضاً على الأحزاب السياسية المؤثرة بالعراق ويدعم نظام الأسد وحزب الله اللبناني عسكريًا واقتصاديًا، لكن التعاون مع إيران الذي كان يصعب تخيّله، بات الآن مطروحًا للدراسة بمراكز دراسات مرتبطة بدوائر الاستخبارات ومراكز صناعة القرار الأميركي.
وكتب ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا بصحيفة ديلي تيلجراف حول أزمة العراق مشيرًا إلى طهران باعتبارها حليفًا محتملاً، وقال: علينا العمل مع كافة الدول الإقليمية لمواجهة الحركات الإرهابية وربما حتى مع إيران التي ستنتهز هذه الفرصة لتتعاون مع المجتمع الدولي ضد تهديد مشترك.
أما في واشنطن فبدأت فكرة التعاون مع إيران تُطرح منذ شهور حين أشار كل من وزير الخارجية جون كيري والرئيس أوباما، في يونيو الماضي، إلى أنهما منفتحان على فكرة العمل مع إيران من أجل إرساء الاستقرار في العراق ومحاصرة داعش وحظيت الفكرة بدعم محدود من قبل نواب بالكونجرس، واعتراض آخرين بارزين.
ولا يمكن تجاهل أثر ثورة الخميني، التي كانت من أهم العوامل التي أدت إلى انتشار الأصوليات الجهادية ورواجها، وساهمت التجربة في حد ذاتها على رفع سقف أحلام الحركات الأصولية إلى إمكانية استنساخ تجربة مماثلة سُنّية، وهو الأكثر انتشاراً والأغنى، كما كان الفكر الذي طرحه الخميني بكتاباته، وخاصة الحكومة الإسلامية الذي نادى فيه بحتمية ما أسماها الثورات السياسية وضرورة المقاومة على المدى الطويل والعمل على تدمير الحكومات، وتأثر بهذه الأفكار أعضاء التنظيمات الأصولية المصرية وتحديداً الجهاد، الذي تبنى الأمر دون الالتفات إلى الخلافات المذهبية، ولعل ذلك يرجع إلى دراما ثورية أثرت في نفوسهم كثيراً وبشكل عميق، وتتبلور هذه الأفكار حول ثلاثة محاور أساسية: هي إسقاط الحكومات القائمة، وإقامة الحكومة الإسلامية، وعدم التعاون مع ما يصفونها بمؤسسات الطاغوت، (ويقصد بها هنا مؤسسات الحكم القائمة في البلاد العربية والإسلامية).
واستفادت إيران من صعود داعش لأنها دفعت حكّام العراق إلى الرجوع إليها طلباً للمساعدة، بل حتى أميركا التقطت اللحظة لبعث رسائل خفية إلى إيران وتومئ لها بإمكانية التعاون ومد جسور التعاون معها كما أسلفنا.
والأخطر أن تنامي قوة داعش لا يقتصر على منح طهران غطاء لمواصلة مساعيها الحثيثة للسيطرة على العراق، لكنها أيضاً تخدم استراتيجيتها بحفر طريقها تدريجيًا نحو تفاهم أميركي محتمل، وفي ظل ما تعانيه المنطقة من اضطرابات تعد الأخطر في تاريخها المعاصر، وإدراكاً منها لشعبية أوباما المتدنية، يُدرك الإيرانيون أنه بحاجة لصفقة نووية معهم أكثر من أي وقت مضى
ولأنه يحتاج مساعدة طهران بالعراق والتعامل مع الأسد، فلا مفر من الاعتراف بأن إيران تملك ورقة ضغط على واشنطن بهذه اللحظة الحرجة، فهذا الاستعراض لخريطة المنطقة ولاعبيها الأساسيين يدفعنا إلى الاعتقاد باقتراب لحظة التفاهم بين الجانبين، لهذا غضّت إدارة أوباما الطرف عما ورد في التقرير السنوي بشأن الإرهاب الذي رصدته الخارجية الأميركية بتصاعد نشاط منظمات إيرانية أو ترتبط بها بالولايات المتحدة منذ عام 2012، ومنها: حزب الله وقوات القدس التابعة للحرس الثوري والاستخبارات الإيرانية، فضلا عن تمددها في العديد من الدول كاليمن وسورية وبلغاريا وتايلاند والفلبين وغيرها.
تأثير إخواني
لكن كل هذه النماذج لا تعبر بنفس الدقة عن ظاهرة أجيال الإرهابيين التي استلهمن مُنظّر الأصوليات الحديثة سيد قطب، الذي بدأ حياته شيوعيًا ثم ما لبث بعد بعثة دراسية لأميركا أن عاد إخوانيًا ناقمًا على الحضارة الغربية بأسرها، وكما هو معلوم فقد تأثرت الحركات والجماعات الإرهابية بالخطاب القطبي المتشدد، وخصوصاً مفاهيم الجاهلية والحاكمية والمفاصلة الشعورية وغير ذلك من المصطلحات التي نحتها قطب، خاصة بعد تجربة السجن التي خاضها، ودفع العالم كله ثمنها كما نرى الآن.
وكانت جماعة الإخوان المصرية، الرافد الأبرز الذي استقت منه القاعدة خطابها الفكري وخبرتها الحركية، فهناك ما يشبه الإجماع بين الباحثين أن جماعة الإخوان المسلمين المصرية كانت بمثابة العباءة التي خرجت منها كافة الحركات المتطرفة في العالم الآن بمسمياتها المختلفة. فضلاً عن أنه من المعلوم أن أسامة تأثر كثيراً بكتابات سيد قطب، كما أوضحنا، بالإضافة إلى تأثره بأستاذه ومعلمه الأول عبدالله عزام الإخواني الفلسطيني.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تنشأ الحركة الإسلامية المعاصرة في حقبة كانت الدول العربية والإسلامية ترزح فيها تحت نير الاستعمار الغربي، ففي مصر التي كانت تخضع للاستعمار البريطاني تصدت لمقاومته ثلاثة توجهات، هي الحركات الوطنية والشيوعية والإسلامية، لكن كانت المنطلقات التي اعتمدها الإسلاميون تختلف عن حركات التحرر الأخرى برفض فكرة الدولة الوطنية، وكتب حينئذ حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين قائلاً: كما أن الإسلام معتقد ودين، فهو دولة وانتماء، وشدد على ضرورة أن يكون ولاء المسلمين لتراثهم وليس لتراث الدول الاستعمارية التي تحكمهم، لكن وعلى الرغم من تحالف الإخوان المسلمين مع جمال عبدالناصر في البداية، لكنه قمعها لاحقاً، وما لبثت أن عاودت الانتشار مجدداً في عهد أنور السادات الذي استعان بهم في صفقة تاريخية شهيرة لضرب خصومه السياسيين من القوميين واليساريين على النحو المعروف.
ورغم وصف داعش للرئيس المصري المعزول محمد مرسي بالمرتد وهجومها اللاذع على جماعة الإخوان إبان حكمها لمصر فقد أرسل قادة الإخوان تهنئة لتنظيم داعش لما حققوه على الأرض مما يظهر العلاقة مع الجماعات الإرهابية، وكشفت مصادر قضائية مصرية عن أن أنصارا لمرسي والإخوان تواصلوا مع داعش، وقالت إن القضية التي تضم 35 متهما مصريا بتنفيذ عمليات ضد الجيش والشرطة خاصة بسيناء، تنفيذا لمخططات الإخوان سواء قبل عملية الإطاحة بمرسي، أو بعدها، أظهرت إجراء اتصالات مع رجل يكنى أبو سهيل، القيادي في داعش لإمداد المتهمين المصريين بهذه القضية بالدعم المادي لرصد منشآت عسكرية وشرطية وتحركات القوات بسيناء لتنفيذ عمليات ضدها.
ويقول خبراء أمنيون واستراتيجيون إن التنظيم الدولي للإخوان يسعى إلى التواصل مع داعش بعد إعلانه أنه قادم إلى مصر، وبعد فشل الإخوان في تحقيق أهدافهم، رغم العمليات الإرهابية التي تنفذها تنظيمات توصف بأنها مليشيات الإخوان بمسميات مختلفة تتبنى جميعها ذات المنظومة الفكرية المتطرفة التي أفرزت داعش، بما يؤكد أن الفروق بين كافة الحركات ليست جوهرية.
المحصلة النهائية
على الصعيد الدولي والإقليمي يبدو أن الرئيس الأميركي حسم أمره بشن عمليات ضد داعش، فبعد تصميمه على تشكيل تحالف دولي، وأعلن أنه سيقدم خطته للتحرك ضد التنظيم، كما أكد وزير خارجيته جون كيري تشكيل نواة تحالف تضم 10 دول أطلسية لمواجهة داعش، فإن الدعم العربي لمساعيه بدا واضحًا أيضًا، ففي القاهرة، دعا الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي الأحد 7 سبتمبر خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب إلى تبني موقف واضح وحاسم لمواجهة شاملة عسكرية وسياسية للإرهاب خاصة تنظيم داعش، وقال مصدر بالجامعة إن هناك قرارا وزاريا عربيا تضمن التنسيق مع واشنطن لمواجهة التنظيم.
وفي المحصلة النهائية فإن منظمة القاعدة من منظور القراءة التاريخية، كانت المنتج غير النهائي لتنظيمات أخرى أكثر فجاجة للحركات الإرهابية التي نشأت بالمنطقة، واستفادت من معطيات العصر وأدواته، لذلك فقد تميز تنظيم داعش عن بقية الفصائل الأصولية السابقة لها بأمرين هما:
الأول: تبني فكرة عولمة الجهاد وتجاوز الأطر الوطنية.
الثاني: استهداف المدنيين بالمنطقة، وعدم اهتمامه بتنفيذ عمليات دولية كالتي نفذتها القاعدة في 11 سبتمبر 2001 لتعبر عن طبيعة نوايا التنظيم ومقاصده ونشاطه الحركي ورؤيته التنظيمية التي تُعول على محاولة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بسيطرته على المعابر الحدودية بين العراق وسورية والأردن، فإنه يتعين على المجتمع الدولي، وكافة دول المنطقة الوعي بأن الأمر لا يتعلق بالعراق وسورية، بل يتجاوز ذلك لاحتمال إقامة التنظيم المتطرف لدولة تضم أجزاء من سورية والعراق، وربما ذهب تهديده إلى أبعد من ذلك بالمنطقة بفروعه في ليبيا وأفريقيا وبعض خلاياه في مصر ولبنان.
واحتمال أن تقود المعارك المتواصلة التي سيخوضها داعش بالعراق وسورية ومساعي خصومها صد هجماتها لتشكل منطقة خارج القانون تنتهي بصوملة العراق وتحوله إلى دولة فاشلة ومرتع خصب لكل العلل والأعطاب التي قد تدخل المنطقة بأسرها في نفق مظلم.