إذا تنامى العقل وأحكامه لدى عامة الناس زال التطرف، بل المبادئ نفسها أو المعتقدات المولدة للتطرف والصراع والاحتقان ستزول، لأنها خارج العقل

بعد زيادة التطرف والاحتقان الطائفي أو توقع احتدامه ينادي المعتدلون من كل جانب بضرورة وأد هذا التطرف قبل أن يستفحل، ولكن يشعر الجميع بأن هذه الدعوات لا تؤتي أكلها، وبأن التطرف ما زال باقيا بل ينمو، بالإضافة إلى تطور الخطاب المؤيد للإرهاب من جمهور كل الأطراف سنة وإمامية وزيدية وغيرهم، والسبب في هذا يعود إلى أن الدعوات إلى وقف التطرف تقترب من النصائح الأخلاقية السلوكية وبعضها إثبات موقف لصاحبها وليست حقيقية، ولكن إذا افترضنا جديتها فإنها دعوات أشبه بدعوات التعايش مع غير المسلم، والتي تقوم على الكف عنه، أو دعوات لحقن الدماء، وهذه تصح حتى في الجرائم الجنائية، فليست خاصة بالصراع المذهبي أو الطائفي.
لقد آن الأوان لنجعل العقل أو العقلانية المرجعية الكبرى لنا جميعا، دولة وأفراداً ومجتمعاً، فهو المصدر الذي ذكرته سابقاً، ونعني به أن كل ما يخالف العقل مرفوض ولا قيمة له، وكل ما لا ينهض بالعقل لا مكان له، فإذا تنامى العقل وأحكامه لدى العامة زال التطرف، بل المبادئ نفسها أو المعتقدات المولدة للتطرف والصراع ستزول لأنها خارج العقل، ولذا لا يوجد صراع مذهبي بين المسلمين في الغرب لأنه لا يمكن تمريره في ذلك المناخ العقلاني، بل إن كل مشاكلنا لن تحل إلا بجعله مرجعية يتوجس الشخص من مخالفتها، وكل محاولة لوأد التطرف والصراع المذهبي أو الدعوة لترك بعض المعتقدات عند الطرف الآخر من غير هذه المرجعية هي جر لحظيرة مذهب القائل أو الداعي، فإذا طلب السني من الشيعي وأد الصراع أو التخلي عن بعض العقائد فسيظنه دعوة للتسنن أو تبشيراً سنياً، لأنه لا توجد مرجعية أخرى عند هذا الشخص يظن أن السني يدعوه لها غير التسنن، وكذلك دعوة الشيعي فإن السني سيظن أن دعوته للتقارب أو تنقيح تراثه جر إلى حظيرة التشيع لعدم وجود مرجعية أخرى له هو أيضا، وكلٌ معذور فيما يظنه عن الآخر لعدم وجود هذه المرجعية البديلة.. فالعملية تلقائية، بل إنه سيثور سؤال تلقائي وهو: إذا تخليت عن بعض معتقداتي فما هو الشيء الذي أعتنقه أو أعتمده؟ ومن غير العقل سيكون الجواب مذهب الطرف الآخر وهو ما لا يريده.
فمع العقلانية، حينما يأتي متطرف ويفضل صحابياً أو تابعياً على آخر أو يسبه ستكون الإجابة أنك تبحث في إيمان شخصيات تاريخية أفضت إلى ربها، مما يعني أنك خارج العصر وخارج الزمن، لكن إذا انتفت العقلانية سيجيبه الآخر بأن هذا الصحابي أو التابعي مؤمن أيها الكافر، فيثور الصراع!
إن هذه العقلانية تحتاج لنشرها واعتمادها لجهود كبيرة يقوم بها إعلام متنور متطور واختيار شخصيات تتمتع بالعقلانية في الحوارات وفي الوظائف ذات الكفاءات العقلية أكثر من الكفاءة الإدارية، وأن تصبح تبريراً لكل سياسة أو قرار أو نظام، لأن التبرير بالوطنية والتبرير بالقانون كمرجعية في هذه المرحلة التي ننتقل بها من الأيديولوجيا إلى نمط الحياة المعاصرة لا يكفيان، فالقانون لا يمكن أن يسري ويستمر بلا عقلانية فهو مصدره هو أيضاً وهذا ما يفسر لنا أيضاً سبب عدم الالتزام بالقوانين والتحايل عليها، فما يقال في الطائفية والصراع المذهبي يقال في الإرهاب أيضاً، بل في كل جزئية، فحتى عدم إلقاء المخلفات من نافذة السيارة أو الانتظام في الطابور لن يتما بلا مرجعية تدفع لهما، وهي ما ذكرته من عقلانية.