يقاتل كثير من المثقفين الذين يحملون أفكاراً ليبرالية لإقناع الناس أن فكرتهم لا تصطدم مع مقررات الدين، وليس لهم موقف مبدئي من الشريعة وأحكامها، ويقدمون أنفسهم على أنهم حملة مشروع إصلاح، ينتقد السائد من قناعات المجتمع التي لا أصل لها ولا قيمة، هكذا في مقدمة مطمئنة يعرض هؤلاء أنفسهم على أنهم لا يعارضون هوية المجتمع الدينية ولا السلوكية ولكنهم يقفون ضد الأخطاء المتعلقة بالسلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهم في ذلك محملون بفكرة عابرة للقارات، أقدامها في الغرب ورأسها يطل من وسط نجد.
هذا القدر من دعوى الإصلاح يمكن أن يقبل، لأن أي فكرة بشرية فيها خطأ وصواب، وفيها مواطن قبول ومواطن رفض، فليست هي في ذاتها شر محض ولا خير محض، ما دام أنها تجربة بشرية قابلة للتعديل والحذف والانتقاء والمواءمة، وهناك خلافات كثيرة مع الليبراليين تكمن في التفاصيل أكثر منها في الأصول، مثل قضايا الحرية والتعددية والمواطنة والحقوق وغيرها.
إن الإشكالية الكبرى التي تفسد هذا الجو من محاولة التقارب والوئام تلك المكارثية التي يتعامل معها بعض الليبراليين حين تأتي الأحداث التي يكون فيها الغلو والتطرف الديني طرفا في المشكلة، إذ يقفز هؤلاء فوق مستوى المسموح به في الخلاف إلى الممنوع والخط الأحمر الذي يزعج كل الناس حكاماً ومحكومين، متناسين السياق التاريخي والبعد الروحي والديني للمملكة العربية السعودية، معرضين عن الموقع الإسلامي التاريخي لجزيرة الإسلام ومهبط الوحي وموئل الناس.. هذه المكارثية تكمن في أمرين:
الأول: الانقضاض على التراث الإسلامي كله بلا استثناء، ورفضه والازدراء به، ورسمه بصورة سوداء بأبشع ما يمكن تصويره، بل ربما تعدى هؤلاء عدائية المستشرقين الذين حرثوا في التراث وأظهروا كل أخطائه وبشاعات التصرفات فيه، وهم بذلك يتعدون على الأصل المكون للثقافة الإسلامية، والأساس الذي قامت عليه الدولة، والوعي الاجتماعي الذي يعتمد التدين في كل حياته وسكناته.
الثاني: توسيع دائرة الإدانة للإرهاب والتطرف لتشمل كل مظهر من مظاهر التدين والقناعة بالإسلام، فهم يتجاوزون نقدهم للخطاب الديني والصحوة والجماعات الإسلامية -الذي يشاركهم في ذلك كثير من الدعاة والعلماء- إلى الدخول في حمى خطير لا يراعي حرمة البلد ولا شعور أهله ولا خطورة الإقدام عليه، ويعتمدون في ذلك الخطاب العدائي التحريضي الإقصائي الاستحفافي الذي يمتحنون من خلاله كل إنسان يبدي رأياً شرعياً أو يدعو إلى تعميق الانتماء الإسلامي أو يدعو إلى الله، ويمارسون في ذلك إرهاباً فكرياً لكل مختلف وحشره في زاوية التطرف والإرهاب، ولا أدري ما هي النهاية التي يريد هؤلاء الوصول إليها بعد هذه المكارثية العجيبة.
إن هؤلاء وبهذا الطرح الخطير، يجعلون أنفسهم جزءاً من المشكلة وليسوا جزءاً من الحل، فهم يسهمون في حالة التوتير الاجتماعي ويدفعون إلى حالة من التطرف المضاد الذي يثبت حقيقة استهداف الدين نفسه، وليس فقط استهداف المنتسبين إلى الدعوة والصحوة، وهذا مبرر كاف لدى منظري جماعات العنف لإقناع الشباب المتحمس برؤاهم وأفكارهم وأن الحرب هي حرب بين الكفر والإسلام وليست بين أفكار نسبية قابلة للاجتهاد.
كما أن هذا السلوك الخطير يسهم في قمع صورة الاعتدال والمعتدلين، الذين يحاولون خلخلة حالة التطرف الديني، فإن كانوا سيحشرون في خانة التطرف كل يوم وهم المعتدلون فلا فائدة من الاعتدال والحال هكذا، وبهذا يُدفع المعتدل إلى تبني أفكار التطرف كردة فعل على تجاوز هؤلاء للقيم والأخلاقيات والحدود الشرعية والعقدية، فيبقى المشهد بين متطرفين في كل صوب واتجاه، وهذه نتيجة خطيرة على المجتمع برمته.
إن صوراً من قبيل الاستخفاف بالربا، أو محاكمة الناس بوطنيتهم بسبب اكتتاب في بنك أو الطعن في رموز معظمة عند الناس، أو الاستخفاف بآيات وأحاديث شرعية، أو التعدي على الحدود الشرعية القطعية التي لا خلاف بين المسلمين فيها؛ هي التي تسهم في إزالة كل بادرة لحسن النية والظن، وتفتح أبواب التكفير على مصراعيه، وتوجد من المبررات لإقناع الجيل بأن حرباً على الإسلام تدار على مرأى ومسمع من الجميع، فالقضية تجاوزت الخلاف في موارد الظن، أو تعدد وجهات النظر في رؤية إصلاحية بأي مجال، وهذا أمر أجزم أنه لا يرضي الولاة ولا العامة ولا المثقفين المعتدلين من الليبراليين الوطنيين، فضلاً عن العلماء والدعاة، فأي هدف أو غاية يمكن أن يحققها هؤلاء من وراء هذه المكارثية، وعليه فلا بد من حوار صريح مع هؤلاء، وبيان خطورة المسلك الذي يسلكون، وتضاعيفه على الأمن والاستقرار وصورة المملكة النقية التي يرى فيها الناس الأنموذج الجميل للجمع بين الأصالة والتحديث، والحفاظ على الهوية الإسلامية مع استلهام مقتضيات العصر النافعة التي لا تؤثر في شيء من القيم والعقائد والأخلاق الإسلامية.
إننا ضد الإرهاب والتطرف والغلو، وضد تسييس الدين للأغراض الخاصة، وضد ركوب موجات الثورات والفتن التي تستهدف بلاد المسلمين وبلادنا خاصة، ومع الإصلاح ومراعاة مقتضيات وظروف المرحلة، ومع الجهود التي تبذل في سبيل حل مشكلات تنموية كثيرة، ومع تجديد الخطاب الدعوي والديني وتنقيته مما علق به من أخطاء؛ ولكن هذا لن يكون سبيلاً لقبول التعدي على الدين أو مهادنة من يتخذ سبيل الضلال سبيلاً.