لاقى عبدالعزيز الكثير من المصاعب والمقاومة لكل ما هو جديد حتى إن البعض كانوا يقولون عنه إنه اتخذ قراراً صعباً لموافقته على إدخال الأساليب الحديثة
الملك عبدالعزيز كان شخصية عربية وحدوية، لقد راهن على الوحدة لهذه البلاد ونجح، وكان شعار جنود عبدالعزيز شعاراً إسلامياً عربياً يحث على التعاضد والتلاحم والاعتصام بحبل الله لجمع هذه الأمة تحت راية واحدة وتكريس شعار واحد هو الدفاع عن الدين والوطن. وكان عبدالعزيز يقول لهم دائماً عند كل غزوة أو فتح قاتلوا عن دينكم وأوطانكم.
وهكذا فقد نهج عبدالعزيز نهج الخلفاء الكرام حين كانوا يحثون أصحابهم على الجهاد وعلى الثبات لنيل أحد الحسنيين النصر أو الشهادة. لقد استعمل عبدالعزيز سلاحاً قوياً وحاسماً انتصر به في أولى معاركه ألا وهو سلاح العقيدة الراسخة والإيمان العميق بالله وبمصلحة الوطن.
من أين كان لعبدالعزيز أن يتمكن من فتح الرياض في بداية مسيرته الميمونة لولا إيمانه وإيمان أتباعه بالله ثم بالحياة من أجل هدف سام هو لمّ شتات هذه الأوطان في وطن واحد.
هذه التجربة الرائدة قد ألهمت عبدالعزيز ويسرت له السبيل لإكمال مسيرته في توحيد الوطن مستعيناً بنفس السلاح سلاح الإيمان والصبر والتحمل.
وعلى هذا الأساس وجد البطل المظفر عبدالعزيز أن تحقيق حلمه الأكبر في الوحدة يتطلب تكوين جيش إسلامي قوي أساسه العقيدة السليمة التي لا تشوبها شائبة.
وقد نجح في إقناع هيئة مستشاريه وهم من العلماء والفقهاء والقادة المخلصين بالعودة لهذه الفكرة وتبنيها.
إن فكرة إنشاء الجيش الإسلامي قد بدأت في وقت مبكر جداً في أعقاب استعادة الرياض ومن يومها اتجهت الجهود إلى تكوين قاعدة جديدة للجيش من (الإخوان) تكون مهمتهم نشر العقيدة المحمدية في كل ربوع الجزيرة العربية كخطوة أولى.
وقد اقتنع مستشارو عبدالعزيز بهذه الفكرة وبأن الإسلام الحق الصافي لن يخرج من نقطة تمركزه في قلب الجزيرة وينتشر في كل أرجائها إلا عن طريق هذا الجيش الجديد القوي المؤمن برسالته.
وقد وردت تفسيرات كثيرة حول تسمية هذا الجيش الإسلامي بـ(الإخوان) إلا أن التفسير الوجيه المعقول هو أن هذه التسمية مستقاة من قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً). الإخوان وهذا الجيش الجديد أو القوة الجديدة تتكون من المتطوعين من شتى القبائل ومن سائر الأرجاء التي يسيطر عليها عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود القائد المسلم.
كان هذا الإنجاز العظيم يعني بشكل آخر ما كان يهدف إليه عبدالعزيز فعلاً وهو تخليص أفراد هذا الجيش من الولاءات والنعرات العصبية التي كانت متفشية وقتئذ وصهرهم في بوتقة واحدة بحيث تكون الطاعة والولاء لله سبحانه وتعالى ومن ثم طاعة (ولي الأمر) الإمام أو الحاكم الصالح الذي كان يتمثل قولاً وفعلاً في عبدالعزيز.
هكذا بدأت نواة هذا الفيلق الإسلامي المسمى بـ(الإخوان) في واحة (الأرطاوية) الواقعة في وسط نجد والتي كانت الأساس في (الهجر) أو معسكرات (الإخوان).
وهكذا تحقق هدف عبدالعزيز في جمع شمل القبائل العربية تحت كلمة واحدة هي كلمة التوحيد وتحت لواء واحد هو لواء الإسلام فإذا بهذه القبائل التي كانت لعهد قريب تتناحر وتقتتل تصبح أمة واحدة موحدة تنسى كل أحقادها وعداوتها القديمة وتسير تحت قيادة عبدالعزيز.
يصف (بنو ميشان) في كتابه (ابن سعود) ولادة مملكة هذه التجربة الوحدوية الرائعة فيقول: إن البناء الجديد كان يحدث أحساساً جديداً تماماً عند هؤلاء الرجال الذين لم يعيشوا حتى ذلك الوقت إلا حياة بدائية قاسية لكنهم كانوا ممتلئين بالنوايا الطبيعية وعندما قيل لهم إن الملك في حاجة إليهم لتحويل مسار الجزيرة العربية نحو التوحد ونشر العقيدة أجابوا بثقة عمياء وعلى رأسهم قائدهم إنهم حاضرون.
ويضيف (بنو ميشان) كان عبدالعزيز كثيراً ما يزور الإخوان ويعطيهم المال وكان يشعر بعاطفة حقيقية نحوهم ويشجعهم على جهودهم ويشرح لهم المعنى العميق لعملهم هذا فيقول: إنكم البادئون في تحقيق إصلاح كبير، إن مصير الجزيرة العربية موضوع في أيديكم من أجل ذلك لا يجب أن يهزمك أي فشل ولا أية صعوبة. وقد تعجبون من أن عملاً كبيراً كهذا يتعلق بمصير أمة قام القلة من الرجال ليس ما يهم هو العدد إن ما يهم هو الحيوية ونقاوة الإيمان. وكثيراً ما كان يقضي ابن سعود ليالي كاملة يحاورهم ويحاورونه ويسألونه النصح وبالتدريج ينقل إليهم عبدالعزيز حماسه. وهكذا لم يعد هناك ملك ولا رعايا كان الكل كتلة واحدة يملؤها الإيمان والحماس الذي كان يذكيه عبدالعزيز دائماً.
بعد ستة أشهر تم نقل الإخوان من مضاربهم إلى بيوت مبنية من الطين بيوت بنوها بأنفسهم وكان لهذا الانتقال مغزى كبير كان هو الهدف الذي سعى إليه عبدالعزيز طويلاً فالمضارب المصنوعة من وبر الجمال وشعر الماعز كانت تعني البداوة والبيوت المبنية من اللبن والأجر كانت تعني الاستقرار وهو المعنى الأساسي في عملية التوطين والتوحد والاستقرار وازدهرت تجربة (الأرطاوية) وتشعبت وقويت شوكتها فأصبحت فيما بعد أقوى جيش إسلامي في شبه الجزيرة العربية كلها استعان به عبدالعزيز في توحيد الجزيرة.
وكان أفراد هذا الجيش سعداء بنمو جيشهم الذي انضم إليه الكثير من القبائل الأخرى وعلى رأسهم (ابن دويش) الذي تزعمهم فيما بعد كما كانوا سعداء باسم (الإخوان) الذي منحهم إياه ابن سعود إحياء لذكرى فيالق النبي الظافرة ولذلك كانت لهم صرخة تجمعهم هي: نحن فرسان الوحدة وإخوان الإسلام لإرادة الله.
ونمت هذه المستعمرات الصغيرة وتكونت بينها حاميات في الدلم وشقراء. وكان عبدالعزيز حريصاً على أن يتم الاختلاط بين القبائل لكي يمنعها من التجمع مرة أخرى في عشائر متنافسة متشاحنة كما كان الحال في زمن مضى.
وعندما بلغت هذه التجمعات الدينية العسكرية درجة كافية من التطور والنمو بدأ عبدالعزيز يختار منها الجنود.
ولم تمض خمس سنوات على إنشاء المستعمرة الأولى حتى ارتفع عدد (الإخوان) فأصبح خمسين ألفاً من الأعضاء الذين لم يعودوا بدواً رحلاً بل جيشاً دائماً قوياً. وهكذا أصبح لدى ابن سعود آلة عسكرية صلبة. مؤمنة بدينها ومخلصة لقائدها وكان من يملكها في ذلك الوقت يملك الجزيرة العربية برمتها.
وهكذا بدا الزحف نحو الوحدة وتمت المسيرة بنجاح مذهل. وتمكن عبدالعزيز من تحقيق حلم طفولته وشبابه وهو لم شتات الجزيرة العربية وتوحيدها في ظل مملكة كبيرة شاسعة مترامية الأطراف هي المملكة العربية السعودية.
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن مسيرة الوحدة وتوطين القبائل الرحل كانت توازيها تماماً مسيرة أخرى هامة في مسيرة البناء ونشر ظلال الأمن والاستقرار اللذين ما كان لهما أن يتحققا إلا في ظل الوحدة.
بدأ عبدالعزيز بكل ما يملك من عزيمة وإصرار في توطين دعائم الصرح الذي بناه؛ فعمل على إقرار الأمن والسلام في أرجاء الجزيرة كافة؛ واهتم بتطبيق الشريعة الإسلامية السمحة؛ وإقامة الحدود على من يخالفها على هدى من الكتاب والسنة.
والتفت إلى ناحية هامة بل شديدة الأهمية وهي تأمين طرق الحج وحماية الحجاج وتمكينهم من أداء الفريضة المقدسة في أمان وسلام. وقد كان ذلك مدعاة لرسوخ الأمن واستقراره في طول البلاد وعرضها وتحقق ذلك في أمد قصير جداً.
كما قام عبدالعزيز بوضع مشروع كبير لتوسعة الحرمين الشريفين وإنشاء الطرق التي تربط مكة المكرمة بمنى وعرفات ومزدلفة وتزويد المشاعر المقدسة وأماكن إقامة الحجاج بالمرافق والخدمات اللازمة من مصادر مياه ومظلات ووحدات صحية.
واهتم بالتعليم لإيمانه بدوره الأساسي في رقي البلاد وتقدمها؛ حيث كان يقول دائماً: ليس من يعلم كمن لا يعلم فأنشأ المدارس وأرسل البعثات إلى الخارج واستقدم المعلمين من الدول العربية.
واهتم ابن سعود كذلك بالرعاية الصحية لمواطنيه فأنشأ الإدارات الطبية والمستشفيات المتنقلة لعلاج البدو في الصحراء رغم ما لاقاه من معاناة ومقاومة نتيجة الجهل والتخلف والتمسك بالعادات القديمة التي كانت سائدة بين القبائل.
وكان عبدالعزيز أول من وضع نواة الطيران في البلاد؛ كما أدخل الهاتف إلى المملكة وافتتح محطة للإذاعة بها.. بمعنى آخر نقل عبدالعزيز الجزيرة العربية إلى حضارة القرن العشرين التي كانت محرومة منها أثناء انعزالها وتفتتها وفقرها وضعفها قبل الوحدة.
ولكن هذا التحديث لم يكن سهلاً في بادئ الأمر؛ إذ لاقى عبدالعزيز الكثير من المصاعب والمقاومة لكل ما هو جديد حتى إن البعض كانوا يقولون عنه إنه اتخذ قراراً صعباً لموافقته على إدخال الأساليب الحديثة، ولقد بدأ ذلك بفكرة التوطين التي اعتقد أنه لم يسبقه إليها أحد في التاريخ على حد علمي على الأقل في عالمنا العربي.