نحن قلب العالم الإسلامي، ومن المهم أن نستثمر روح التدين الذي يسربل الشعوب المسلمة عبر منابر الفضائيات الإسلامية، وبدلا من محاولات شيطنتها ليتنا نقوم بدعمها وترشيد مسيرتها
قال صديقي متهكما عقب رؤيته حلقة في إحدى الفضائيات خصصت عن الفضائيات التي تحمل توجهات دينية؛ إننا سنشهد في المرحلة المقبلة حملة إعلامية لشيطنتها، ودعوات لإغلاقها، وعندما قوّست حاجبي تعجبا واستنكارا، همس بصوت خفيض: أين هم الآن الشخصيات الدعوية التي تعرضت لذات الحملة قبل أشهر! فوجمت وسكت.
أزعم أنني مع هاته الفضائيات الإسلامية من بداياتها، حيث كنت مساعدا لأستاذي الراحل د. عبدالقادر طاش، إبان تأسيس قناة اقرأ في غرة رجب 1419، وهي القناة التي سجلت اسمها في تأريخنا الإعلامي كأول قناة إسلامية، وكان أستاذي -يرحمه الله- يعمل جاهدا بألا تأخذ صفة الإسلامية لحساسية هذه الصفة عند بعض النخب، وكان يفضل صفة الهادفة، لذلك كان شعار القناة وقتها: متعة الإعلام الهادف.
كان صدى انطلاق قناة تحمل توجهات دينية وتراعي الضوابط الشرعية العامة كبيرا جدا، وأتذكر أن لقاء أجرته إذاعة BBC البريطانية مع د. طاش قبيل انطلاق القناة بأيام، وكان سؤالها الأول مباشرا: هل ستكون القناة منبرا للرؤى والأفكار الأيديولوجية المتطرفة؟ وبالطبع أجابهم أستاذ الإعلام الإسلامي الأول بأن القناة تحمل الروح الوسطية، وتبث فكر الاعتدال، وهو ما أثبتته الأيام، وباتت اقرأ القناة الأولى للجاليات الإسلامية في الغرب، وأسهمت بشكل كبير في بث روح التدين في مصر وشمال أفريقيا وللجاليات في الغرب، بل وأكثر من ذلك نقلت رؤى وفكر علمائنا في السعودية إلى تلك الأصقاع البعيدة.
أتذكر تماما برنامج الفتوى في القناة، ولم تك أية قناة إسلامية غيرها في الساحة قبل عقد ونصف تقريبا من السنوات، فكان البرنامج يبث أسبوعا من مصر، وأسبوعا من السعودية، وكانت الاتصالات تنهال من كل دول العالم، وحتى من النرويج والسويد وكل دول أوروبا، من الجاليات العربية التي تعيش هناك، وكانت الاتصالات التي تأتي لعلمائنا في استديو السعودية، أكثر بأربعة أضعاف من تلك التي تأتي البرنامج إن كان المفتي فيها أحد الأزهريين، ثقة بعلمائنا وحبا فيهم.
تلاحقت الفضائيات الإسلامية بعدها، وأسهمت معظمها في بث التدين والعلم الشرعي السلفي بالخصوص، وكذلك فكر الدعوة بمدارسها المختلفة والحمد لله، وجاءت ظاهرة الدعاة الجدد وقتها، كعمرو خالد ومحمد العوضي وعايض القرني، الذين حققوا حضورا كبيرا في الساحة الاجتماعية العربية، وانتشرت موضة الحجاب في تونس والمغرب ومصر، بشكل أذهل كل المراقبين الذين لم يتوقعوا أن تعود المرأة المسلمة في تلك البلاد بعد كل عقود التغريب والمناهج التي تضاد روح التدين.
أقسم بأيمان مغلظة هنا، أن الفضائيات الإسلامية اليوم هي قوة ناعمة في أيدينا، وهذه الأصوات التي تتعالى من قبل الليبراليين والتغريبيين اليوم لإغلاقها؛ هي أصوات غير ناصحة أبدا لدولتنا، وإننا لو استطعنا احتواء هذه القنوات التي يقوم معظمها برؤوس أموال سعودية، وقمنا ببعض التوجيه العام الذي لا يتعارض مع رؤى مشرفيها وملاكها؛ لحققنا أضعاف أضعاف ما نبذله من مال وجهود مهدرة في تحسين صورتنا، سواء في الغرب أو العالم العربي.
نحن قلب العالم الإسلامي، ويتجه المسلمون لبلادنا خمس مرات كل يوم، ومن المهم أن نستثمر روح التدين الذي يسربل الشعوب المسلمة، وهؤلاء لا يأتون إلينا عبر قنوات الطرب والأغاني والرقص ومسابقات الترفيه، بل يأتون لسماع أصوات علماء الحرمين الشريفين، المطلين لهم عبر منابر الفضائيات الإسلامية التي يقبلون عليها بدافع إيماني صرف، وبدلا من محاولات الشيطنة؛ ليتنا نقوم بالدعوة لدعمها وترشيد مسيرتها للأفضل، والدعوة لإنتاج برامج تعرّف بنا وما نبذل من جهود ومساعدة للعالم الإسلامي، نخدم بها صورتنا وسياستنا، وقبل ذاك وذاك، تحمل منهجنا الوسطي وفكر الاعتدال الذي فاخر به والدنا خادم الحرمين الشريفين وأشهره في نيويورك أمام العالم، وهم الذين حاولوا نمذجة إسلام بن لادن أو داعش اليوم على أنه الإسلام الذي ندين به. لو قمنا بذلك إذن لاستثمرنا هذه القوة الناعمة بطريقة لا تكلفنا أبدا، وحصدنا كثيرا من الأهداف التي نحن اليوم في مسيس الحاجة لها كدولة ومجتمع.
انظروا ماذا تفعل القنوات الشيعية؟ أكثر من ثلاثين قناة تتراوح بين قنوات الأطفال والقنوات الإخبارية والأخرى المتنوعة تحمل فكر إيران، ويتلقى معظمها تمويلا منها، تبث صباح مساء لكل دول أفريقيا والعالم العربي، تتكامل فيما بينها، ما جعل إمام الحرم المكي الشيخ سعود الشريم يقول: القنوات الشيعية قرابة ثلاثين قناة، لا يوجد منها قناة واحدة تحارب التشيع، والقنوات السنية كثيرة، وكثير منها يحارب السنة. هذه القنوات الشيعية التي تنافح عن سياسة إيران، وتهيئ الشعوب العربية لأن تقف مع سياستها الصفوية العمياء، ألسنا أولى بأن نفعل هذا مع فضائياتنا الإسلامية!
بالتأكيد هناك سلبيات عديدة تخترم الفضائيات الإسلامية، ربما كان عدم تكامليتها، وبعض توجهات ملاكها أو عدم معرفة مصادر دخلها، وكنت في حوار قبل أيام مع مسؤولين في هيئة الإعلام المرئي وقلت لهم: من الخطأ الكبير عدم احتوائكم للفضائيات التي تقدمت بطلب رخصة فتح مكاتب لها بالسعودية، فالأفضل لكم ترسيمها كي تستطيعوا التعامل معها بل ومحاسبتها، وتنضبط بمعاييركم وشروطكم، بدلا من تنفيرها لدول أخرى، وتفقدون السيطرة عليها.
احتواء الفضائيات الإسلامية بدلا من شيطنتها، هو استثمار للقوة الناعمة التي نتوافر عليها، ومن السذاجة التفريط بها.